د. مختار صادق* لكل عصر عنوان و عنوان عصرنا الذي نعيش هو برمجيات الحاسوب. و لذلك وجب لفت الإنتباه لهذه التكنولوجيا الحديثة لما لها من تأثير على كل القطاعات الإقتصادية الاخرى بدون استثناء. إذ يعتبر هذا المجال الحيوي مجال المستقبل بدون منازع فمن مسك بناصيته ضمن القسط الأوفر من رفع تحدي التنمية و القطع مع التخلف بجميع أشكاله الإنعكاسات الإجتماعية قد تكون مواقع التواصل الإجتماعي مثل "الفايس بوك" و "التويتر" من أبرز الأمثلة على تأثير برمجيات الحاسوب في الحياة الإجتماعية للأفراد و الشعوب. و تعدّ برمجيات الحاسوب الصناعة المحددة لازدهار أي قطاع مثل الإتصالات الحديثة و على رأسها مواقع التواصل الإجتماعي و الإتصال المباشر بالصوت و الصورة كمواقع "سكايب" و "جاستن تيفي"و غيرها. و يتجه البحث الآن في مجال "الأنترنيت" نحو تركيز شبكة الأشياء في مقابل شبكة المعلومات مما سيجعل عالمنا الحسي و العالم الإفتراضي بالكمبيوتر يتداخالان بطريقة تقترب من السحر. و برمجيات الحاسوب أصبحت الآن منتشرة في كل نواحي الحياة بالدول الصناعية فمثلا بإمكانك اليوم و أنت في طريقك للتبضع المقارنة في الحال بين مختلف سلع و أسعار الشركات المتنافسة عن طريق هاتفك الجوال المربوط بشبكة الانترنيت و ذلك لاختيار أجود السلع بأقل الأسعار الممكنة. و هناك برمجيات حاسوب تمكنك من مراقبة منزلك و إطفاء الأضواء و تشغيل المعدات و أنت على بعد آلاف الأميال و الأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى و لايحدها سوى خيال المخترعين و مبرمجي الحاسوب. و تتجه التكنولوجيا لاستبدال الإنسان بالكمبيوتر في أخذ القرارات ليصبح البحث و الإختيار و التنفيذ بصفة آلية حيث يكتفي الإنسان بتعمير استمارة عن ذوقه و ميولاته و شروطه بينما يتكفل الحاسوب بالباقي. و برغم الإنجازات الباهرة في هذا الميدان لا يزال الطريق طويلا لتتحول البشرية من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة ثم الى مجتمع الحكمة كما ينظّر لذلك الفلاسفة و المفكرون. و لكل ذلك يجب على أصحاب القرار في الوطن العربي العمل الدؤوب على نشر ثقافة برمجيات الحاسوب و ترغيبها للناشئة حتى يتحول العرب من مجرد مستهلكين لهذه التكنولوجيا إلى مصنعين لها. إن التطور التصاعدي الزاحف لبرمجيات الحاسوب يوشك قريبا أن يدك كل مقومات الحياة اليومية كما اعتدنا عليها و على الجميع أن يضعوا خلافاتهم جانبا قبل أن يجرفهم "تسونامي" التكنولوجيا و يجهض في المهد أي نهضة عربية مرتقبة عندما تصبح مهمة اللحاق بالأمم المتقدمة أكثر تعقيدا و صعوبة بفعل الهوة التي تتسع كل يوم بل كل ساعة تجارب الأمم الأخرى تعتبر التجربة الصينية المتوثبة مثالا حيا على نجاعة التعويل علي مجتمع المعلومات و الدخول بقوة إلى ميادين برمجيات الحاسوب. و نهضة العملاق الصيني حاضرة بشدة في أذهان الساسة و الناخبين الغربيين و منتديات و مراكز البحوث الإستراتيجية لما لذلك من تأثير مباشر علي ميزان القوى الحالي الآخذ في إعادة التشكل بسرعة تضاهي سرعة تفشي التكنولوجيا في حياة الناس نحو مزيد التوازن بين الشمال و الجنوب. و تمثل الصين أكبر تحدّ للغرب في هذا المجال بحكم امتدادها الديمغرافي المهول و انطلاقتها الإقتصادية المتوثبة و الإرادة السياسية الصلبة لقيادتها. و للجم المارد الصيني اتجهت أنظار الغرب إلى الهند لإحداث توازن استراتيجي في المنطقة. فمعظم مدن الهند ك"حيدرباد" و"بنقالور" و غيرها تشهد الآن نهضة صناعية غير مسبوقة حيث تسعى الشركات الأمريكية و الأوروبية العملاقة جاهدة على الحصول على موطئ قدم هناك. و قد نجحت الطبقة السياسية في الهند في القفز على خلافاتها الدينية و العرقية و قنصت فرصة تاريخية فريدة لتنهل من تكنولوجيا و رؤوس أموال الغرب عبر شراكة استراتيجية متينة مستغلة في ذلك انشغال غريمها الباكستاني بمشاكله الداخلية و التخلف شبه الكامل للعرب و المسلمين عن المشهد الحضاري. و في البلدان الأخرى التي حققت نهضتها الصناعية باكرا مثل كوريا الجنوبية و اليابان تعتبر تكنولوجيا برمجيات الحاسوب العصب الرئيسي للإقتصاد و توسعه. تعصير البنية التحتية يُعتبر إحداث "الطرق السيارة" في ميدان الإتصالات السلكية و اللاسلكية ضروريا لضمان تدفق المعلومة و استرسالها بسرعة إذ أن ذلك كثيرا ما يحدد نجاح أو فشل مشروع ما في ظل عالم يتجه لإتاحة المعلومة للجميع و الفارق في التوقيت و سرعة الوصول إليها بأجزاء من الثانية قد يحسم النتيجة إما بالنجاح أو الفشل. و كمثال بسيط هناك شركات عملاقة في البورصة الامريكية و مرابيحها بملايين الدولارات و هي متأتية من قدرتها على القيام بعمليات بيع و شراء الأسهم بأسبقية أجزاء من الثانية على منافسيها و ذلك باستعمالها كمبيوترات عملاقة و أسرع "الطرق السيارة" لتدفق المعلومة. و في كثير من المبادلات أصبحت الحواسيب المبرمجة هي من تتخذ قرارات البيع و الشراء و هي محكومة بدرجة كبيرة بسرعة تدفق المعلومة إليها. و لعل البعض مازال يذكر الإنهيار المريع لبورصة نيويورك في شهر أيار(ماي) من السنة الفارطة حيث خسر مؤشر "داو دجونز" أكثر من ألف نقطة في ظرف ربع ساعة فقط و هي ثروة تفوق الترليون دولار و ذلك عندما بدأت الحواسيب تتخلص من الأسهم بطريقة آلية و قد كاد يؤدي ذلك إلى كارثة على الإقتصاد العالمي لولا تدخل الجهات المختصة لإرجاع الأمور إلى مجراها الطبيعي. و قس علي ذلك برمجيات التحكم عن بعد في الطائرات و الأقمار الصناعية و نظم الصواريخ و غيرها. و بغض النظر عن سلامة أو أخلاقية مثل هذه المشاريع إلا أن ذلك يمثل مجرد عينة مما هو آت عندما تصبح الحواسيب و سرعة تدفق المعلومة إليها هي من تصنع الفارق. و هذا لايعني أن كل المؤسسات الأخرى هي بحاجة إلى تدفق المعلومة بأقصى السرعة الممكنة و هنا قد يكون استعمال الوسائل الغير مكلفة لربط أكبر عدد ممكن من المواطنين بالانترنيت من الحلول الناجعة في وطننا العربي المترامي الأطراف. و في هذا الصدد تعتبر التجربة النرويجية و بعض البلدان الإسنكدينافية تجربة حَريّة بالدرس إذ وقع الإعتماد على المحطات اللاسلكية لربط المناطق الثلجية النائية بالانترنيت. و تعتبر تكنولوجيا "الواي ماكس" التي يجري إعدادها حاليا من الوسائل الواعدة لربط النقاط النائية بالانترنيت بطريقة لاسلكية علي مسافة تصل إلي عشرات الأميال. بعث و تشجيع المشاريع المتخصصة إن الحواسيب بكل أنواعها و استعمالاتها أصبحت منتشرة في جميع أنحاء العالم و بأثمان زهيدة. و منذ ظهور الحواسيب و تداولها بين الناس في منتصف الثمانينات و أثمانها تنخفض باطّراد بينما تتضاعف طاقات تلك الحواسيب مرّة كل سنتين تقريبا متّبعة في ذلك قانون "مور" المعروف و بحكم المنافسة الشرسة هاجرت هذه الصناعات إلى أماكن اليد العاملة البخسة في بلدان آسيا و لم تعد حكرا على البلدان المصنّعة. و يُعتبر هذا الإنتشارالواسع للحواسيب عامل استقرار لهذه التكنولوجيا مما يجعل المشاريع التي تعتمد على الحاسوب غير مهددة بالتجاذبات السياسية كما هو الحال بالنسبة للتكنولوجيا النووية مثلا. و مما يجعل برمجيات الحاسوب مهيأة لتتبوّء مكانة مهمة في نهضة الأمة هو ملاءمة هذه الصناعة للتركيبة الإجتماعية و الديمغرافية لواقعنا العربي. ذلك أن بعث مشروع في هكذا إختصاص لا يتطلب شراء آليات ثقيلة يصعب اقتناؤها أو توفير رأس مال مهول بل قد لايتعدى الأمر سوى شراء حاسوب و توفّر شبكة الأنترنيت ليصبح بذلك الشاب العربي كأي شاب في العالم يتنافس على قدم المساواة في صنع برمجيات الحاسوب التي يمكن أن تجد تطبيقاتها في أي ميدان من ميادين الحياة. فالتطور المهول في علوم الإتصال جعل الوصول إلى المعلومة أيسر من أي وقت مضى و أصبح الجد في العمل و إتقانه و التخطيط المحكم لكل شاردة وواردة هو بالأساس ما يصنع الفارق بين سلعة أو أخرى و بذلك أصبح العالم "منبسطا" تتتكافؤ فيه الفرص للإنتاج و الإبداع بين الشرق و الغرب بدون أسبقية لجهة على أخرى تحت مسمى التاريخ أو الجغرافيا أو غيرها. فعلى القائمين على برامج التعليم بالوطن العربي ايلاء هذه التكنولوجيا عناية خاصة بتدريسها للأجيال الصاعدة و جعلها مادة رئيسية في كل مجالات البحث العلمي و الإستفادة من تجارب البلدان الصناعية في هذا الميدان. فمثلا شركتا "جوجل" و "فيسبوك" العملاقتان تأسستا على أيدي طلاب بالجامعات الأمريكية حينها إلا أنه كان لديهم تصوُّرٌ سابق لعصرهم عن مستقبل الإتصالات وقتئذ فبعثوا هذه الشركات و هم لا يزالون على كراسي الدراسة. ثم احتضنتهم الماكينة الإقتصادية الأمريكية بقوانينها الإستثمارية الخلاّقة و وسائل تمويلها الصلبة لتغير بذلك تاريخ الإتصالات الحديثة في العالم. خاتمة تعرض هذا التحليل إلى الدور المفصلي لبرمجيات الحاسوب في الإقتصاد العالمي و ضرورة المسك بتلابيب هذه التكنولوجيا إذا أراد العرب أن ينهضوا من ارتهانتهم الحضارية. و يجب على العرب أن يتركوا جانبا تعليق فشلهم على شماعة الآخرين و يشمروا على ساعد العمل و الإجتهاد لجعل ثقافة هذه التكنولوجيا متشربة في وجدان و بين أنامل الناشئة و على رأس أولويات أصحاب القرار في عصر برمجيات الحاسوب