عندما تعود من سفرك وترتمي في أحضان الطفولة والبراءة وتعيش نعمة اللقاء في ابتسامة طفلك وفرحة أهلك، تفاجئك أخبار سيئة تعيدك إلى مربع الحقيقة والواقع المر، لأنك تنسى أنك لا تعيش لأهلك فقط ولكن لوطن ولأمة... عندما تبصر من حولك في عوالم وأجناس ونحل وأقوام، يعود إليك البصر حاملا معه حقيقة مدوية جميلة أن تكريم الله للإنسان كان كاملا شاملا، أن جعله خليفة لعمارة الأرض وعرض عليه الأمانة فقبلها فكان تكريما في السماء مثلته الملائكة وهي تسأل عن هذا الخلق العجيب، وتكريما في الأرض حمله الطبع والشرع والعرف والهدى، بصرامة وحزم... عندما تتفقد عالم الطير والحيوان وكل الدواب، الزاحف منها والماشي والطيار، تظهر لك رفعة الإنسان ومنزلته، غير أن حالة عجيبة غريبة تبرز على السطح لتجعل من العجب اشمئزازا ومن الغرابة رفضا ومقاومة! حالة لعلها بنيت على العقل والعقل منها براء، حالة انفرد بها الإنسان على جميع الكائنات، انفراد بؤس وسواد، حالة كنا نظنها إلى الوحوش أقرب وإلى عالمهم ألصق، فوجدنا الوحش ينبذها والإنسان سيدها وراعيها! العذاب والتعذيب شعبة من شعب الظلم التي حرمها مقدسنا أشد تحريم وكان واضحا وحاسما في نبذها ومقاومتها لأنها تمثل المقابل الطبيعي لكل ما يحمله الإسلام من تكريم وتقدير للذات البشرية، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا"، وكانت وصية أبي بكر المشهورة "ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة" وفي وصية عمر رضي الله عنه "ولم استعملكم لتضربوا أبشارهم أو لتأخذوا أموالهم" ويزيد علي كرم الله وجهه هذه المنظومة الأخلاقية والعبادية تأصيلا وتمكينا "ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل..، ولا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا إلا بإذن..، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاكم" حتى أنه أوصى برعاية قاتله قائلا لابنه الحسن "أطيبوا طعامه وألينوا فراشه"!!! هذه الصفحات البيضاء التي تقارب الأسطورة قد خطتها مرجعية ومارسها رجالها وكانت بداية تحوّل حضاري بُنيَ أساسا على مجتمع القيم ودولة الحق والقانون، ولما انفلت العقد برزت صور مغشوشة وتمكنت بعض العناوين السوداء وحملت مشاهد ساهمت في سقوط حضارة وفنائها. بين حَجَّاجِ الأمس واليوم خيمات للصراخ لقد صاحب الصراع على السلطة لما سقطت منظومة القيم ترهلات وتجاوزات رهيبة حملتها محطات رهيبة كانت عناوينها المباشرة ولاة وحكام، وكان الاستبداد مرافقا لمشاهد وصور عارية لآلة الظلم لما تستفرد بالرعية، وكان لهذه الخيم السوداء تواصل رهيب مع حاضرنا اليوم، فلِحَجَّاجِ الأمس حَجَّاجِ اليوم، بل تجاوزه اختراعا وإبداعا في مجال الظلم والعذاب. لقد كانت مشاهد الأمس على قلتها في هذه المحطات السوداء، تصاحبها بعض الأنوار من هنا وهناك وإن ظل الجميع الطريق، غير أن حَجَّاجَ اليوم مزَّق الحجب والستر، وصال وجال، واعتدى على العفاف والشرف، وأسقط منظومة القيم وتعدى على الأخلاق، ونكَّل بمنافسيه، وابتدع من أجل ذلك صورا من العذاب يشيب لها الولدان... لن نخطئ العنوان حين نرى تلازم الاستبداد والاستفراد بالسلطة مع الرذائل والمفاسد، وكما قيل السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وإذا كانت للشورى أو الديمقراطية منظومات قيمية ترعاها وتلازمها، فإن للاستبداد ثقافة وعقلية تولّد ممارسة معينة، أركانها الجور والحيف والاستخفاف والاستحمار، وليس التعذيب إلا شعبة كريهة من الظلم، يلتجأ إليها المستبد لتركيز ملكه وتقوية نفوذه وإرهاب منافسيه وأعدائه، وإن كان العدو نخبة أو طبقة أو حتى شعب بأكمله!!! صورة من جهنم لقد وقفت هذه الأيام على فضيحة أمام المحاكم التونسية حيث صرّح أحد المعتقلين وهو أخ فاضل قضى نصيبا من عمره وراء القضبان ظلما وعدوانا، صرح بأنه تعرض لاعتداء فضيع مسّ عفته وشرفه من بعض من فقد آدميته وسعى إلى خسران دنياه وآخرته! الحادثة ليست الأولى كما يبدو من بعض الروايات المتواترة والقصص الأسطورية، لذلك كم يسودني العجب أن تنطلق العرائض والأقلام شاجبة مستنكرة غاضبة لتختفي بعد لأي وكأن الحادثة منعزلة وليست مسارا دائما متواصلا يمثله منهج وخطة وفعل يكاد يكون مُقنّنا في الخفاء. الساهرون على هذا الفعل في كل مستويات القرار ليسوا استثناء، وهذه الحالة الجديدة ليست منعزلة، واقرأوا إن شئتم روايات من بات ليلة أو عقود في سجون الاستبداد وستسمعون الآهات والصياح بين السطور، وستلمسون الدماء والدموع وهي تنازل نقاط الحروف المتساقطة حياءً. لحظة صدق وفعل الوقوف ضد التعذيب ليس فقط موقفا حزبيا ضيقا يدافع عن "الأخ" وينسى "الرفيق" أو العكس... الوقوف ضد التعذيب ليس فقط موقفا سياسيا يلعب ورقة العرائض والاستنكار على ظهور زرقا وحمراء أشبعت ضربا وجلدا تفوح منها رائحة الشواء... الوقوف ضد التعذيب ليس فقط موقفا حقوقيا يبدأ بإرسال المحامين إلى محكمة صورية غاب فيها العدل في الدهاليز المظلمة مرافقا خفافيش الليل... الوقوف ضد التعذيب ليس فقط مناسبة لاستعراض خطابات المقاومة والصمود والغضب العارم، تنتهي بشفاء "المريض" أو هكذا يُخَيَّل، أو المراهنة على النسيان ودخول منازل الحياء والتقوقع... الوقوف ضد التعذيب قيمة أخلاقية للجميع وفرض عين تلزمه كرامة الإنسان، وهو عندنا قيمة دينية ثابتة لا تنتهي بانتهاء المناسبة وانقطاع الصياح...ولا تنطفئ بانتهاء حقوقها ولا تخفت حين ننساها، ولا تموت حين لا تصبح صفقة سياسية مربحة!!! الوقوف ضد التعذيب هو لحظة صدق مع الذات.. هو كلمة حق نرفعها عالية مدوية لا نخاف منها لومة لائم، هي شهادة حق لا نريد غبنها والمساومة عليها ببدائل مغشوشة أو مكاسب شخصية أو أوراق خريف صفراء بالية. والحمد لله أن أكرمنا بمنزلة اليد العليا التي تجعلنا نستطيع أن نقول للمسئ أسأت وللمعذِّبِ أفحشت وللمظلوم صبرت رغم عذابات المهجر ومظلمة النفي والتهجير. ما العمل وحتى نكون عمليين ولا نقف في مستوى التنظير والشجب رغم قلة ما في اليد أمام ضخامة "ماكينة" الاستبداد، فإني أقترح على القراء الأعزاء وعلى كل مواطن غيور وكل كريم، هذه المبادرة البسيطة في ثلاث مضارب : 1/ أن يتم تسخير يوم سنوي لمقاومة التعذيب للتذكير بهذه الفاحشة، تجتمع فيه كل المواقع المعارضة لتحمل شارة سوداء وتنشر المقال والفيديو والبيان والقصيدة والقصة لتعرية الاستبداد وفضح القائمين على هذه المجزرة. 2/ أن يكون أول يوم جمعة من كل شهر منبرا خاصا في كل المواقع لطرح واقعة تعذيب موثقة ومسئولة. 3/ أن يتم إنشاء موقع خاص لتجميع وتوثيق هذه الوقائع حتى تبقى عبرة ونغصا ووثيقة حقوقية ثابتة. نوفمبر 2010 الكتور : خالد الطراولي