فاجأ المترشح الجمهوري للرئاسة الأميركية جون ماكين الجمهور الأميركي، وربما قاعدته الحزبية أيضا، باختيار سارة بالين نائبة للرئيس في الانتخابات الرئاسية. وفي هذا المقال نتناول جانبا من شخصية هذه النجمة السياسية الصاعدة في سماء الولاياتالمتحدة، خصوصا رؤاها الدينية والأيدولوجية، ومغزى تلك الرؤى فيما قد تتبناه من سياسات تجاه الوطن العربي والعالم الإسلامي. الدين والأيدولوجيا تنتمي سارة بالين إلى ولاية ألاسكا التي لا يتجاوز عدد سكانها سبعين ألف نسمة، وهي لا تمتلك تجربة سياسية في إدارة الشأن الوطني الأميركي، فقد تقلدت منصب عمدة بلدة صغيرة لبضع سنين قبل أن تنجح في اكتساب منصب حاكم الولاية منذ عامين. لكن بالين تعتبر متدينة للغاية، فقد تربت في أحضان الكنيسة وتبنت بعض المواقف الاجتماعية والفكرية المتأثرة بمعتقداتها الدينية، أو بمعتقدات ناخبيها على الأقل. فهي –مثلا- معارضة شديدة للإجهاض ولزواج الشواذ، كما أنها ترغب في أن يتم تدريس قصة الخلق الإلهي للكون في المدارس جنبا إلى جنبا مع نظرية التطور الداروينية. "تديّن بالين هو وفق المعايير الأميركية فقط، فهي مثلا حملت مولودها الأول من صديقها سِفاحا قبل أن تتزوجه، وأقرت بأنها كانت تتناول مخدر الميروانا حينما كانت قوانين ولاية ألاسكا تسمح بذلك"
وقد نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن القسيس الذي تتعبد بالين في كنيسته عادة بأن "العناية الإلهية هي التي أتت بجورج بوش إلى البيت الأبيض"، وأن "أميركا تخوض حربا مقدسة ضد الإرهابيين". كما نقلت الصحيفة عن بالين طلبها مرة من رواد الكنيسة من الشباب أن يدعوا بالنصر للقوات الأميركية التي تقاتل في العراق وأفغانستان، مشيرة إلى أن القيادة الأميركية قد تكون بعثت قواتها "في مهمة ألهمها الرب وخطة وضعها الرب". كل هذه المواقف الاعتقادية والسياسية تعتبر جزءا من منظور اليمين البروتستانتي الأميركي الذي يجمع في تفكيره تركيبا عجيبا من التعصب والسذاجة. على أن تديّن بالين يبقى تدينا بالمعايير الأميركية فقط، فهي مثلا حملت مولودها الأول من صديقها سِفاحا قبل أن تتزوجه، وأقرت بأنها كانت تتناول مخدر الميروانا حينما كانت قوانين ولاية ألاسكا تسمح بذلك. كما أن زوجها تم توقيفه مرة بتهمة سياقة سيارته وهو سكران. أما ابنتها ذات السبعة عشر عاما فهي حديث وسائل الإعلام الآن لأنها حامل سِفاحا أيضا.. ومن يشابهْ "أمه" فما ظلم. وفي عقيدتها السياسية تتبنى بالين القيم الأميركية التقليدية القائمة على حصر دور الدولة في المجتمع في أضيق نطاق، وتحميل المواطنين مسؤولية التخطيط لحياتهم بعيدا عن مساعدة الدولة ما كان ذلك ممكنا. ويعني هذا عمليا رفضها تحمّل الدولة نتائج السياسات الاجتماعية التي التزم بها المترشح الديمقراطي باراك أوباما، مثل التأمين الصحي الذي يعاني أكثر الأميركيين من انعدامه، أو من بذل أموال طائلة في تحصيله. الموقف من إسرائيل لم تزر بالين بلدا غير الولاياتالمتحدة وكندا قبل العام 2007، وهو العام الذي زارت فيه القوات الأميركية المنتمية إلى ولايتها في الكويت ثم في ألمانيا. وهي لم تزر إسرائيل قط، ولا تملك أي خبرة في السياسة الخارجية. وليس من ريب أنها ستزور إسرائيل وتؤدي شعائر الولاء والطاعة المعتادة التي يؤديها كل سياسي أميركي، مثل الوقوف بخشوع –صادق أو مصطَنع- أمام حائط المبكَى، وإلقاء بعض التصريحات حول "أهمية إسرائيل للولايات المتحدة"، وبعض التهديد والوعيد لأعداء إسرائيل، حتى وإن كانت لا تعرف شيئا عن أولئك الأعداء. فقد أوردت مجلة نيوزويك أن بالين لا تعرف شيئا عن السنة والشيعة، ولا تميز بين تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني. وهذا جهل يشترك معها فيه ماكين الذي تلتبس هذه التصنيفات في بعض تصريحاته أحيانا، رغم خدمته المديدة في الكونغرس. ومع كل ذلك فإن اليهود الأميركيين الذين لا يرضون من النخبة السياسية الأميركية بالقليل لن يصوتوا بكثرة لماكين ونائبته بالين، وذلك لسببين: أولهما أن ماكين خيب رجاءهم في اختيار أحد أعضاء الكونغرس اليهود نائبا له، خصوصا جو ليبرمان وإريك كانتور اللذين كانا يطمحان إلى الترشح مع ماكين. "بالين ستزور -من دون شك- إسرائيل وتؤدي شعائر الولاء والطاعة المعتادة التي يؤديها كل سياسي أميركي، مثل الوقوف بخشوع –صادق أو مصطَنع- أمام حائط المبكى، وإلقاء بعض التصريحات إزاء "أهمية إسرائيل للولايات المتحدة"، وبعض التهديد والوعيد لأعداء إسرائيل"
وثانيهما أن نائب أوباما في المنافسة الرئاسية جو بايدن معروف بولائه العميق لإسرائيل، وهو يفخر بأنه صهيوني رغم أنه كاثوليكي الديانة، فقد قال في تصريح لقناة "شالوم" الإسرائيلية العام الماضي "أنا صهيوني.. إنك لا تحتاج لأن تكون يهوديا كي تكون صهيونيا"، كما افتخر بايدن مرة بأن ابنه متزوج من يهودية. ومهما يكن من أمر فليست بالين بالتي ستضيف جديدا إلى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بل ستكون رؤاها على الراجح شبيهة برؤى الرئيس الحالي جورج بوش الذي وصل سدة الحكم جاهلا بالسياسات الخارجية، لكن محيطه اليميني والصهيوني وجهه الوجهة الكارثية الحالية التي لن تستطيع الولاياتالمتحدة فكاكا منها في الأمد المنظور. فالمعلومات الشحيحة المتوفرة عن بالين وأسرتها توحي بأنها مصنوعة من طينة جورج بوش. فقد أوردت بعض المصادر –مثلا- أن أحد أبناء بالين التحق بالجيش الأميركي يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2007، وهو يستعد للحاق بجبهة القتال في العراق الأسبوع القادم في ذكرى أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وليس التوقيت في الحالتين اعتباطا. كما أن الأصوليين البروتستانت يشكلون أقوى داعم لبالين ولبوش من قبلها، وهم خليط من عُبَّاد إسرائيل المؤمنين بوجود حرب أبدية بين الإسلام والمسيحية. أما بناء علاقات على أساس من البر والقسط مع العرب والمسلمين فليس جزءا من تفكيرهم، وأما الاعتراف بحقوق الفلسطينيين فليس واردا عندهم إلا بقدر ما تجود به إسرائيل عن طيب خاطر، دون تدخل أو ضغط من الولاياتالمتحدة. مكسب أم تحصيل حاصل؟ ليس اختيار سارة بالين بالقطع مبنيا على خبرتها السياسية، فهي لا تمتلك خبرة تؤهلها لتولي ثاني أهم منصب في الإمبراطورية الأميركية. وربما كان ماكين المعروف باعتداده الشديد بنفسه يؤمن بأنه يملك الخبرة الكافية، وليس بحاجة إلى نائب ذي خبرة. وتشير استطلاعات الرأي اليومية التي يجريها معهد غالوب إلى أن الأغلبية الساحقة من الأميركيين البيض الذين يذهبون إلى الكنيسة أسبوعيا مؤيدون لماكين ضد خصمه السياسي أوباما بنسبة 65% مقابل 26%، بينما يتفوق أوباما على ماكين في أوساط الناخبين البيض غير المتدينين بنسبة 51% مقابل 39%. ويتقدم أوباما على ماكين في صفوف الأقليات كلها تقريبا، بحكم انتمائه إلى الأقلية الأفريقية واعتماده سياسة اجتماعية تخدم المواطنين ذوي الدخل المحدود، وسياسة خارجية أكثر تواضعا وأقل تبجحا من السياسات التي ينتهجها جورج بوش في الوقت الحاضر. كما تشير هذه الاستطلاعات إلى أن ترشيح بالين لم يغير هذه المعادلة كثيرا، فالمواطن الأبيض المتدين كان مع ماكين قبل ترشيحه بالين، وسيبقى معه ضد أوباما وأنصاره الليبراليين. فيمكن القول إن ترشيح بالين تحصيل حاصل إلى حد كبير، فهو قد يزيد من حماس الناخب المتدين لماكين لكنه قد لا يزيد عدد الناخبين المتدينين الذين سيصوتون له. أما الأسباب الحقيقية لاختيار بالين من طرف المترشح ماكين وحزبه الجمهوري فأهمها جاذبيتها الشخصية، خصوصا أن المرشح الجمهوري جون ماكين رجل طاعن في السن، عبوس الوجه، متلعثم اللسان، لا رصيد لديه من الكاريزما السياسية أو الجاذبية الشخصية. "ترشيح بالين تحصيل حاصل إلى حد كبير، فهو قد يزيد من حماس الناخب المتدين لماكين لكنه قد لا يزيد عدد الناخبين المتدينين الذين سيصوتون له"
أما سارة بالين فامرأة شابة ذات بلاغة وفصاحة، تحمل بين جنبيها بعض ملامح الشخصية الأميركية التقليدية، العصامية الطبع، المؤمنة بتحقيق الحلم الشخصي من خلال العمل الجاد. وكل من يحمل هذه الروح العصامية يجد قبولا في الثقافة الأميركية، خصوصا في الأوساط المحافظة والتقليدية من المجتمع الأميركي. وربما كان ماكين يحاول –بشيء من الذكاء غير المعروف عنه- أن يظهر للناخب الأميركي أيضا أن حزبه يهتم بالمرأة ويفسح لها المجال أكثر مما يفعل خصومه في الحزب الديمقراطي الذين أبعدوا هيلاري كلينتون عن الترشيح نائبة لمرشحهم باراك أوباما. ولعل المعلق في صحيفة نيويورك تايمز فرانك ريتش على حق حينما أشار إلى أن أهم ما ستضيفه بالين إلى حملة ماكين هو أنها ستلفت أنظار الناخبين بعيدا عن شخصية ماكين نفسه. وليس من ريب أن المترشح الجمهوري العابس الوجه العييَّ اللسان يحتاج إلى إلهاء الناخبين بوجه أقل عُبوسا ولسان أكثر طلاقة، ولو لبعض الوقت. كما أن إلهاء الجمهور الأميركي عن الحروب العبثية الفاشلة في الخارج والأزمة الاقتصادية الخانقة في الداخل لا يقل أهمية. وليس أفضل من بالين –ملكة الجمال والبطلة الرياضية السابقة- لأداء هذه المهمة. فإن استمرت عملية الإلهاء هذه لوقت كاف إلى يوم الانتخابات مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفاز ماكين ونائبته بالبيت الأبيض، فسيكون ذلك برهانا جديدا على السذاجة الأميركية المعهودة لمن لا يزال ينتظر برهانا على ذلك. كاتب موريتاني