ضرب زلزال جزيرة هايتي الصغيرة، المتواضعة في بنيانها وعمرانها وقدراتها، وعدد سكانها الذي يكاد لا يصل الثلاثة ملايين. وكان أثره دماراً وحصاداً للأرواح كبيراً، فاق ما خلّفه إعصار تسونامي من دمار وقتلى وجرحى ومشردّين. في هايتي الآن دمار شبه كامل للبنى التحتية وصولاً إلى قصر الرئاسة نفسه، وفيها ما يقارب 200 ألف قتيل و250 ألف جريح، ومليونين بحاجة إلى مختلف أنواع المساعدة من طعام وإيواء ودواء. ولعل أخطر ما قد يضرب هايتي يأتي من احتمال انتشار الأوبئة بسبب تعفن جثث الموتى في الشوارع وبطء دفنها. سارعت إدارة أوباما إلى وضع يدها على مطار هايتي، وأرسلت بوارج حربية إلى شواطئها، وأعلنت إرسال عشرة آلاف جندي للسيطرة على الأمن، والإشراف على توزيع الأغذية والمساعدات. وكلف الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئيسين السابقين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش بجمع الأموال لمساعدة ضحايا الزلزال وتسلُّم إدارة «صندوق كلينتون-بوش من أجل هايتي». (انتبهوا الرؤساء ينفع بعضُهم بعضا أيضاً). هذا، ولم ينس باراك أوباما الإعلام ليستعرض مراسيم تعيين الرئيسين العتيدين في المهمة الإنسانية-النبيلة الجديدة، مصرِّحاً بأن حاجة هذا البلد الصغير القابع في منطقة الكاريبي إلى المساعدة «ستمتدّ شهوراً وسنوات». وهذا يعني أن الوجود العسكري الأميركي الذي يسيطر الآن على هايتي سيَمتد شهوراً وسنوات، الأمر الذي راح يقلق كوبا وفنزويلا وبوليفيا من النيّات المبيّتة وراء الاستخدام الأميركي لكارثة الزلزال تحقيقاً لواحد من الأهداف الاستراتيجية الأميركية في البحر الكاريبي، وهو احتلال هايتي مرّة بعد أخرى. من يُدقق في مجموع الخطوات التي اتخذتها إدارة أوباما في «نجدة» هايتي سيجدها خلال الأيام السبعة الأولى من بعد الزلزال كانت ذات طابع عسكري لا علاقة لها بالنجدة السريعة المباشرة لضحايا الزلزال. فقد كانت الأولوية إرسال الجنود ووضع اليد على هايتي، بما في ذلك التحكم بحراك الدول الأخرى التي هبّت للمساعدة. وقد انفردت إدارة أوباما التغييرية في تقرير كل ما يتعلق بوصول المساعدات وتوزيعها، وأصبح دور الرئيس وحكومته لاغياً عملياً، وعلى العالم المساعدة من خلالها. هذه السيطرة العسكرية على الجزيرة وهذا الانفراد في التحكم بأي مساعدة خارجية أثارا احتجاجات واسعة، وكان أبرزها الاحتجاج الفرنسي الذي وُجِّه إلى إدارة أوباما حول الوضع في مطار العاصمة الهايتية «بورأوبرنس»، حيث «منعت طائرة مستشفى فرنسية من الهبوط»، وهو ما أعلنه وزير الدولة الفرنسي لشؤون التعاون ألان جويانديه. إن منع طائرة مستشفى من الهبوط لنجدة ضحايا الزلزال يكشف بصورة صارخة الأهداف الأميركية التي تحكمت في سياسة المساعدة الأميركية لهايتي، حيث يمكن القطع هنا أن الأولوية لم تكن لنجدة الضحايا والتخفيف من المأساة الإنسانية، وإنما السيطرة العسكرية على الجزيرة والانفراد في التحكم بكل ما يتعلق بها من الآن فصاعداً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومصيراً، حتى لو كان ثمن ذلك التباطؤ في وصول المساعدات الإنقاذية. لقد صوّرت أجهزة الإعلام تظاهرات الاحتجاجات للمئات من ضحايا الزلزال، في اليوم السادس من وقوع الكارثة، وهم يطلبون ما يسدّ الرمق من الطعام فقط، وكان ذلك في العاصمة، أما في الضواحي والقرى والبلدان الأخرى فقد تُركت آثار الزلزال تأخذ مداها حتى الحد الأقصى. ثمة تقديرات بأن الضحايا من الجرحى والأحياء تحت الركام -بسبب بطء وصول المساعدات والنجدة- قد تقترب أو تفوق أعداد الذين قضوا في الزلزال ساعة وقوعه. وهذه الظاهرة، بهذه المناسبة، مكرّرة في كل حالات الكوارث الطبيعية التي تحدث لشعوب تنتمي إلى بلدان العالم الثالث، الأمر الذي يسمح بالقول إن وراء ذلك سياسة وليس مجرد صعوبات في سرعة التحرك إلى الموقع والإنقاذ المباشر. وقد كتب عن ذلك في كثير من المناسبات وسرّبت تقارير سريّة تتضمن الحث على إبطاء وصول المساعدات والنجدة قدر الإمكان حتى لو بيوم واحد أو ساعات، لأن كل تأخير حتى لو كان بالدقائق والساعات، ناهيك عن الأسبوع الأول، يزيد من الضحايا، وهو ما يلتقي مع استراتيجيات التخفيف من سكان العالم الثالث، والفائضين عن حاجة النظام الرأسمالي الإمبريالي العولمي. لمن يريد أن يرفض وجود مثل تلك السياسات لدى بعض الدول الكبرى وفي مقدّمها الولاياتالمتحدة الأميركية، له أن يفعل ذلك، ولكن الوقائع تؤكد أن ثمة بطئاً في وصول المساعدات للمناطق المنكوبة، ويمكن إيراد الكثير من الأمثلة التي تثبت التباطؤ، سواء أكان متعمّداً أم غير متعمّد، وهذا هو مثال هايتي يجأر بهذه الحقيقة بعد مرور أسبوع على الكارثة. ثم هنالك أيضاً ظاهرة عدم التناسب بين جعل المتاجرة بتقديم المساعدات والإعلان عن تأسيس صناديق لجمع التبرعات من جهة، وبين التلاشي التدريجي للفعل بعد انتهاء الحفل الإعلامي، لننسى الكارثة من جهة أخرى، كما بين إنفاق قسم كبير، إن لم يكن الأكبر من الأموال التي جُمِعت كمصاريف إدارية وخدماتية وليس لتضميد الجراح وإعادة البناء من جهة ثالثة. فيا لهذا العالم الظالم ونظامه السائد وقادته الأشدّ ظلماً. العرب القطرية 2010-01-21