شاع في الثقافة العربية ان الأدب عمل فردي، يبدعه صاحبه بدون مشاركة من احد، بل ان الكتّاب والروائيين والشعراء دائما ما يتكتمون على اي تحوير او تعديل يلحق نصوصهم، ويكون من طرف جهة خارجية عن ذواتهم العتيدة... ويزداد الأمر التباسا ان الغالبية الغالبة من دور النشر العربية تخلو من لجان قراءة، ومن محررين قادرين على التدخل في النصوص لفائدة أدبيتها وجمالها، اما مهنة منقح النص فلا أتصوّر ان الكثير من الكتّاب والناشرين قد سمع بها، وانا كنت منهم، قبل ان التقي بالالماني هيلموت فريلنغهاوس منقح نصوص غونتر غراس. ولد هيلموت عام 1931، درس اللغة والأدب الاسباني، اشرف على تحرير وإعداد الكثير من الاعمال الادبية في دور النشر الالمانية. ويشرف منذ عام 1988 على اعمال غونتر غراس الى اللغات الاجنبية وقد اصدر مؤخرا كتابه «الشبوط يتحدث لغات عديدة» الذي ضم مقالات لمترجمي غراس. انه رجل قصير القامة، له ملامح جدية لا تخلو من صرامة، ولكنه كان ودودا معي وكريما، ومنحني البعض من وقته، ونحن في ساعة متأخرة من الليل على متن طائرة في رحلتها من اليمن الى ألمانيا كان تبادل الحديث معه وقوفا وكان المترجم السوري الفوري احمد خماس هو صلة الوصل بيننا. اعلمني في بداية الحديث انه عاش من سنة 95 الى سنة 2002 في نيويورك وكان شاهد عيان لحادثة 1192001 وقد كان يسكن على بعد 80 مترا من البرجين وشاهد الطائرة الثانية وهي تصطدم باحد البرجين، وقد كتب عن هذه الحادثة 11 مقالة على شكل مذكرات نشرت في جريدة «زوريخ»، اكبر الجرائد السويسرية ولاحظ ان الكثير من الكتب نشرت حول تلك الحادثة، اغلبها كتب تافهة، وهو لزهده في ان يكون كاتبا لم ينشر مذكراته في كتاب، رغم انها تستحق ان تنشر في كتاب، فلا تهافت عندهم الكاتب شيء والمنقح شيء آخر مختلف تماما، دون تفاضل ولا عقد، وهو يعتزّ بعمله كمنقح، ويقول ان سنّي 73 ومازلت متحمسا للعمل مع الآخرين بدون حدود. يؤكد فريلينغهاوس ان غونتر غراس هو الذي اتصل به راغبا منه تولي تنقيح نصوصه الروائية التي حازت سنة 99 على جائزة نوبل، ويصف اعمال غراس انها تتمتع بدقة عالية وقد راجعها صاحبها بما فيه الكفاية، وتسلم له قبل نشرها شبه كاملة، فيقوم بقراءتها اربع او خمس مرات، وعمله الاساسي هو تنبيه الكاتب الى الضعف اللغوي، ان كان موجودا او لتكرارات قريبة من بعضها، او لتفصيل من التفاصيل يكون محل سهو او في حاجة الى التثبت، ويرى بصفته منقحا ان على المنقح ان يتعايش مع النص وان يعاشره الى درجة يصبح كأنه صاحبه، من اجل العثور على التعبير المناسب او الكلمة التي كان يبحث عنها الكاتب زمن الكتابة ولم يظفر بها. يقول هذا المنقح الالماني انه اضافة الى ذلك يهتم بقضايا جانبية كالدعاية والاعلانات وكتابة نصوص تعريف وعرض للكتب لفائدة الجرايد والمجلات، (وهل الدعاية والاعلانات قضية جانبية في الغرب؟)... وهو يدرك ان غراس يفضل وجوده الى جانبه عندما يقابل الصحفيين الامريكيين والبريطانين، ويلاحظ بانشراح ان نفسيته تختلف عن نفسية كاتبه، ورغم ذلك فقد اصبحا صديقين حميمين رغم انهما كانا يتخاطبان بشكل رسمي. ولمزيد توضيح عمله افادني بأنه كلما صدر كتاب جديد «ندعو المترجمين الذين يعجبنا عملهم، والذين سيقومون بترجمة كتب غراس الى اللغات الأخرى، ونعقد لقاء مغلقا... ومثالا على ذلك انه عند صدور كتاب غراس الاخير جاءنا مترجمون من 22 دولة، بمعنى 22 لغة، من بينهم مترجمة عربية تسكن في لندن.... اجتمعنا بهم في مدينة «لوباك» الالمانية وبقينا معهم لمدة اربعة أيام، ودرسنا الكتاب صفحة صفحة... انا اقوم بإدارة هذه اللقاءات بحضور الكاتب بشكل مستمر، يكون المترجمون في اغلب الاحيان خجولين قليلا امام الكاتب، ويكون عليّ تحريضهم على القاء اي سؤال يخطر على بالهم مهما كان سطحيا او حتى تافها». يضيف فريلنغهاوس ان عمله غير مقتصر على غراس فقط، وانما هو يعمل مع كاتبين آخرين، احدهما شاب، والثاني متوسط في العمر والتجربة. وحين سألته هل ان العمل الابداعي في الغرب صار جماعيا ولم يعد فرديا، ردّ بالنفي، واعتبر ان تلك مجرد تفاصيل صغيرة لا يمكن ان تشكل تدخلا من قبل الآخرين في صلب عملية الكتابة، فالنص يبقى من انتاج صاحبه بنسبة 99... ولتوضيح ذلك يقول انه حين يقترح على غراس تنقيحا ما يوافق عليه احيانا فورا، واحيانا بعد اسبوع، بعد ان يفكر فيه ويجده مقبولا، واحيانا يرفض المقترح... « ثم ان تعاملي مع الكتاب يختلف من واحد الى آخر، فمثلا لديّ كاتبة نمساوية تتعامل معي وتطلب مساعدتي من اول تخطيط لقصتها حتى نهايتها» لكن حين سألته الى اي مدى يشعر ان الكتب التي يراجعها تنتسب اليه بشكل من الأشكال؟ اجاب بأنه وقتها يكون منقحا جيدا ويكون عمله غير مرئي بالنسبة للقارئ وان لا علاقة له بالنص، وانه يعتبر نفسه تقنيا. فقط تقني وذلك يسبب له الشعور بالرضا والاعتزاز. وعن سؤال: «متى يعجبك النص الادبي التي تقوم بتنقيحه، ومتى يثير غيرتك؟» قال: «ليس هناك نص يثير غيرتي. ولكنني اعجب وأكون سعيدا عندما اشعر ان هذا النص بلغته المتماسكة وصياغته المتينة قد يصل الى درجة الكمال، ولا ارغب ابدا في ذكر اسمي في الكتب التي اقوم بتنقيحها، ولكن غراس هو الذي اصرّ على ذلك، ولعلمك فإني اتقاضى اجري من دار النشر، وانا حرّ في عملي مائة بالمائة». قلت له ونحن ننهي هذا اللقاء المرتجل: «هل نفهم ان عمل المنقح اقرب الى المحافظة منه الى التمرد شأن حال المبدعين» فقال لي ان الكتّاب الجيدين يتمردون على اللغة من اجل تطويرها، والمنقح الجيد، يساند هذه الثورة على اللغة ويدعمها. اضع هذا النص، شبه الحوار، امام القارئ وقد تملكني احساس بالدوار من فرط العلو الشاهق الذي يشرف على سفح بلا قرار، لا ينفع معه لا قول ولا تعليق، ونسأل بعد ذلك عن التأخر والتقدم، فمن لنا بمنقح لاينقح فقط نصوصنا من شوائبها، بل ذهنياتنا واخلاقنا وارواحنا من تشوهاتها.