نشر غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل للآداب ، قبل أيّام قليلة، قصيدة مطوّلة يدين فيها الكيان الصهيوني...وهذه القصيدة التي أخذت شكل «مقال شعريّ» قد تخلّت، عن وعي عامد، عن كلّ المحسنات البلاغيّة من صور واستعارات ورموز والتي هي من مقوّمات الشعر واهتمّت
، إذا استعرنا لغة البلاغيّين القدماء، بمقول القول لا بطريقة القول...أي اهتمّت بالأفكار والمواقف لا بطريقة عرض تلك المواقف والأفكار..فلا شيء في هذا النصّ يحيل على الشعر غير طريقة توزيع الكلمات على الورقة، وهذه الطريقة تذكّرنا ، على وجه الخصوص، بشعر التفعيلة... فالكاتب غونتر غراس يريد أن يبلّغ رسالة، ويريد أن تكون الرسالة مباشرة، مبرّأة من كلّ غموض أو التباس ، لهذا اختار لها من الكلمات أقربها ومن التراكيب أوضحها.
تبدأ القصيدة / المقال بمقطع يؤاخذ فيه الشاعر نفسه عن لواذه بالصمت، مقرّا بأنّ صمته كان صمتا طويلا ، مريبا ، متواطئا لأنّه صمت «عمّا هو واضح وجليّ». وهذا الأمر الواضح الجليّ هو امتلاك إسرائيل « قدرات نوويّة تتزايد / غير أنّها خارج نطاق المراقبة/ لأنّه لا يسمح لأحد بإجراء تفتيش /..» هذا الصمت العام الذي يندرج تحته صمت الشاعر هو «فعل إجراميّ»، على حدّ عبارة غونتر غراس ، قد أُكره الجميع على اقترافه خوفا من العقاب المتمثّل في وصم كلّ من يخرج عن الصمت « بمعاداة الساميّة» وهذا الاتهام سيف مسلّط على كلّ الرقاب..وخاصّة على رقاب الألمان....والأدهى من كلّ ذلك أنّ إسرائيل تملأ ، هذه الأيّام، العالم ضجيجا مدّعية الحقّ»....في توجيه الضربة الأولى / الضربة التي قد تمحو من الوجود الشعب الإيرانيّ /...لأنّهم يشتبهون في حيازته قنبلة نوويّة تحت الصنع . ثمّ ينتقد غراس الحكومة الألمانيّة التي ستبيع إسرائيل غوّاصة حربيّة حديثة وما يميّز هذه الغوّاصة «أنّها تستطيع أن توجّه رؤوسا متفجّرة / تدمّر كلّ شيء / هناك حيث لم يثبت وجود قنبلة نوويّة..»
في المقطع الموالي يعاتب غونتر غراس من جديد نفسه ويقسو في عتابها متسائلا : «لماذا صمتُّ إلى الآن ؟.لماذا لم أقلْ ما ينبغي أن يُقال؟...لماذا لم أقلْ إلاّ الآن إنّ القوّة النوويّة الإسرائيليّة تهدّد السلام العالميّ ؟ لماذا لم أقلْ إلاّ الآن عندما أصبحت طاعنا في السنّ..ولم يبْقَ في الحبر غير قطرات ؟»...
لكن لماذا جاء هذا الاعتراف متأخرا ؟ وما الذي جعل الكاتب يبوح بهذه الحقيقة بعد صمت طويل ؟ يؤكّد الكاتب أنّ الخوف من «فوات الأوان» هو الذي دفعه إلى الجهر بهذه الحقيقة...فإسرائيل باتت خطرا على الجميع ...وبات كلّ من يساندها « شريكا في ذنب لا يمكن أن يمحى بالأعذار المعهودة ..» لهذا رفع صوته قائلا : لن أصمت بعد اليوم / لأنّني سئمت نفاق الغرب../ ولأنّني آمل أن يحرّر الكثيرون أنفسهم من أغلال الصمت /....ويصرّوا على مراقبة دائمة لقدرات إسرائيل النوويّة /ومنشآت إيران الذريّة..» بهذه الطريقة يمكن ، في نظر غونتر غراس، مساعدة الجميع الإسرائيليّين والفلسطينيّين بل كلّ البشر «في هذه المنطقة التي يحتلّها الجنون...».
على إثر نشر هذه القصيدة ثارت ثائرة الأدباء المساندين لإسرائيل فشنّ الأديب الألماني رولف هوخهوت هجوما عنيفا على غراس في خطاب مفتوح قال فيه : إنّني كألماني أخجل من حماقتك المتعجرفة التي أردت بها حرمان إسرائيل من شراء غوّاصة من الإنتاج الألماني ...فهذه الغوّاصة يمكن أن تمثّل لدولة إسرائيل الأمان الأخير من قوّة نوويّة مجاورة..
واتهم الكاتب الأمريكي دانيل جوناه غراس بأنّه «زوّر تاريخه النازي» ورأى أنّ القصيدة التي هاجم فيها إسرائيل تردّد كليشيهات العهد النازي... لكنّ أعنف الانتقادات جاءت من إسرائيل حيث دعا رئيس اللجنة الإسرائيليّة للكتّاب باللغة العبريّة زملاءه في كلّ أنحاء العالم إلى إدانة الموقف غير الأخلاقيّ للكاتب الألمانيّ غونتر غراس وصرّح هاكاك: «صدمنا من تصريحات غراس ومواقفه المخجلة التي تهدف إلى نزع الشرعيّة عن إسرائيل...» وأضاف: سنتوجّه إلى نادي القلم وإلى لجنة نوبل ونطلب منهما التعبير عن موقفهما ...فالأمر أخلاقيّ وليس سياسيّا ..لأنّ غراس متواطئ في عمليّة تبييض تصريحات الإبادة التي يتفوّه بها المسؤولون الإيرانيّون.
غونتر غراس في حاجة هذه الأيام إلى المثقّفين العرب يساندونه ويقفون إلى جانبه ...وأقترح في هذا السياق أن تدعوه وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ليكون ضيف شرف في معرض الكتاب التونسي تحيّة من بلادنا لهذا الكاتب الكبير الذي أصرّ أن يقول ما ينبغي أن يقال في وقت لاذ فيه المثقفون الغربيّون بالصمت تهيّبا أو بحثا عن سلامة موهومة.