تطور إيرادات السياحة وتحويلات الجالية    كرة اليد.. منتخب الاواسط يفشل في تحقيق اللقب الافريقي    خالد هويسة ل«الشروق» «السلطة الرابعة» مونودراما تاريخية لحفظ الذاكرة الوطنية ... !    كاتب وكتاب...في الصالون الثقافي الشجرة بأكودة.. الإحتفاء بالكاتب منذر العيني وإصداريه «كويدسميتيك» و«الهوامش»    فيتش تُرفِّع التصنيف الائتماني لتونس إلى +ccc    توزر .. عودة مدرسية في ظروف عادية    بطولة افريقيا للاعبين المحلين 2025: اقامة النهائيات في فيفري المقبل في كينيا وتنزانيا وأوغندا    الحرس الوطني.. دعم متواصل لعائلات وابناء شهداء الواجب    المهدية .. العودة المدرسيّة .. أجواء عاديّة، وتواصل أشغال تهيئة مؤسسات التربويّة    مصر.. الإفتاء تحسم جدل قراءة القرآن بالآلات الموسيقية والترنم به    نور على نور ... عبد الكريم قطاطة    انتخابات الجامعة التونسية لكرة السلة - قبول ترشح قائمة علي البنزرتي    عاجل/ تفاصيل جديدة بخصوص جريمة قتل تلميذ في مقرين..    إيطاليا تعلن مشاركة تونس في اجتماع وزراء داخلية مجموعة السبع    القصرين.. تفكيك وفاق مختص في قرصنة حسابات الفايسبوك وابتزاز اصحابها    تحذير من شتاء قاس على الفلسطينيين في غزة    الشركة الجهوية للنقل بصفاقس تواكب انطلاق السنة الدّراسيّة    رابطة ابطال اوروبا: بارين مونيخ يستهل مشواره في غياب بوي المصاب    عاجل/ جريمة قتل تلميذ: الاحتفاظ بشابين وكشف معطيات جديدة    بطولة الرابطة المحترفة الثانية تنطلق يومي 12 و13 أكتوبر القادم    وزير الخارجية يتسلم نسخة من أوراق اعتماد سفير النمسا الجديد لدى تونس    توننداكس يفقد 0،2 بالمائة من قيمته في إقفال الإثنين    ظهور بعض السحب على أغلب الجهات ليل الاثنين    عاجل/ ظهور متحوّر جديد لكورونا سريع الانتشار    أخصائي في امراض الجلدة يدعو الى ضرورة تكفل "الكنام" بالمستحضرات الواقية من الشمس بالنسبة لبعض المهنيين    تونس تشهد خسوفا جزئيا للقمر ليل الأربعاء    الأربعاء المقبل: تونس تشهد خسوفا جزئيا للقمر    نادين نسيب نجيم تفوز بجائزة أفضل ممثلة عربية    هند صبري: الممثلون الرجال يتقاضون أجرا أكثر من النساء    صفاقس: الكشف عن عصابة لترويج المخدرات والقبض على عنصرين وحجز عدد 05 صفائح من مخدر القنب الهندي.    حجز 61 قطعة بأحجام مختلفة من مخدر القنب الهندي والإطاحة بالمروج..    عاجل - تونس : بشرى لمحبي الشاي الاخضر و الارز    المترشّح العياشي زمال يتعهّد بصياغة دستور جديد    تصنيف محترفات التنس: أنس جابر تحافظ على المركز 22    عاجل : أنس جابر تنسحب من كلّ المسابقات حتّى نهاية السنة    رياض جعيدان النائب بمجلس نواب الشعب رئيسا للجنة القانونية للمرصد العربي لحقوق الانسان    من تونس إلى باريس: "دريم سيتي" يحل ضيفا على مهرجان الخريف    رئاسية 2024: هيئة الانتخابات تنبه الى ان الانشطة المتعلقة بالحملة الانتخابية غير المصرح بها "تعد غير قانونية"    أبطال إفريقيا: النتائج الكاملة لمواجهات ذهاب الدور التمهيدي الثاني    وزير التربية يطلع ببنزرت على ظروف إنطلاق السنة الدراسية الجديدة 2025-2024    العدد الرابع من المجلة العلمية "عدسات جندرية" يسلط الضوء على "حيوات الفلسطينيات"    لماذا فشلت إسرائيل في تعقّب مكان السنوار ؟    تفاصيل وفاة '' تيتو''.... شقيق مايكل جاكسون    مدنين: الميناء التجاري بجرجيس يختتم موسمه الصيفي بتامينه اخر رحلة قدوم ومغادرة للمسافرين    مدفوعا بتطور مبادلاته...القطاع الصناعي يتجّه نحو ترسيخ تماسكه    كيف نستطيع التّأقلم مع تغيرات فصل الخريف؟    المغرب.. تطورات جديدة في حادثة محاولة اقتحام مهاجرين لمدينة سبتة والحرس الإسباني يتصدى بشراسة    إرتفاع في أسعار عدة أصناف من الخضر و الغلال و الأسماك..التفاصيل    هيونداي تونس تُتوج لأدائها الاستثنائي مع علامة «أفضل تقدم في المبيعات» على المستوى الإقليمي    الحماية المدنية 310 تدخل خلال 24 ساعة    عاجل : مواعيد العطل المدرسية لسنة 2024-2025    أثر على الملايين: عطل مفاجئ يصيب تطبيق غوغل في أجهزة أندرويد    السلطات الأمريكية: حادث ترامب محاولة فاشلة لاغتياله وتم اعتقال مشتبه به    هل التقاعد أزمة ؟    إجراءات صارمة لمكافحة ''جدري القردة''    القيروان مدينة لا تنام ومئات الآلاف من زوارها يتدفقون احياء لذكرى المولد النبوي الشريف    ظافر العابدين يستعدّ ل ''رمضان''    نتائج إيجابية للقاح ضدّ السرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة النهضة في تونس : من السّجن ... إلى الحكم (12)
نشر في الشروق يوم 07 - 05 - 2012

تحمل حركة النهضة في جرابها تجربة تاريخية حديثة بدأت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حين تأسست الجماعة الإسلامية في تونس زمن حكم «بورقيبة» كحركة دعوية ، وكان المشهد السياسي آنذاك في تونس تحت سيطرة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في مقابل حركات يسارية وقومية معارضة، في دولة الزعيم الوطني والفرانكفوني الذي يبني الدولة الحديثة المتمدنة، محمولا بتجربة «كمال أتاتورك» في تركيا وبإعجاب مدهش بالأنموذج الفرنسي... وكانت بداية استعادة الإسلام في تونس متأثرة بفكر الإخوان المسلمين في مصر مع «حسن البنّا» و»سيد قطب» وبمقولات «أبي الأعلى المودودي» وكتابات الإسلاميين ، مثلما انبهرت بأصداء الثورة الإيرانية عام 1979 بقيادة «آية الله الخميني» ...
كان استرجاع العامل الديني كذلك ردّة فعل الضمير الجماعي في تونس ضد مواقف بورقيبة من الإسلام، في خصوص مفاهيم الحرّية ومجلة الأحوال الشخصية وفي تعدّد الزوجات ومسألة التبنّي وصوم رمضان، وخاصة هدمه لموروث المؤسسة التعليمية لجامع الزيتونة الأعظم وتصفيته الموجعة «لليوسفيين» بشراسة، وانتهج الزعيم بتونس سبيلا يبتعد عن المجال العربي الإسلامي نحو تكوين دولة قطرية حديثة تنفصل عن هويّتها التاريخية وتقترب بخطى حثيثة من الثقافة الغربية... لقد تصوّر بورقيبة أنّ الثقافة لا تكون إلّا فرنسية واعتقد أن اللغة العربية هي أحد عوائق الحداثة والتنمية، فأسّس لنظام تعليمي أنتج أجيالا مثقفة إلا أنها مغتربة عن ذاتها، يتأبط فيها المثقف جريدة فرنسية ويتلفظ في لغته العامية بلهجة باريسية خالصة وتسمّى فيها أشياء العالم بمسمّيات العمّ «فولتير»، كان بورقيبة مناوئا للعروبة وللإسلام بل كان يبحث لتونس عن هويّة حديثة في منطق أبويّ.

اتّجه اهتمام التياّر الإسلامي الناشئ إلى معاودة استنبات الفكرة الدينية في مجتمع تونسي هجر المساجد وانكفأ عن المقدّس وحاصره التغريب، كانت فكرة موجهة إلى إحياء قوة العقيدة لدى فئة الشباب في المعاهد والمدارس وفي الكشافة، وكذلك في الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية داخل المدن، كان عملا منهجيا معقدا وثابتا هدف إلى بناء قاعدة جماهيرية تتبنّى إيديولوجيا دينية صارمة ومكافحة... وقد نشطت الظاهرة الإسلامية في المساجد وضمت إليها بقايا الزيتونيين الرافضين لسياسة بورقيبة، فأعادت إنتاج الدروس الدينية في تحفيظ القرآن وتدبّر أصول الفقه وأصول الدين، وجادلت في حلقات التكوين السياسي هموما سياسية تشتغل بفكرة كليّة هي مفهوم «الأمة الإسلامية»، ونظرت في مسألة محورية هي تصور نظام الحكم في الإسلام ، هنا التحم العامل الديني بالعامل السياسي بما يستجيب لأهم ركائز الإسلام السياسي المعاصر وهو الجمع بين سياسة الدولة والدين كمرجعية مقدسة.

في بداية الثمانينات غيّر التيار الإسلامي عنوانه السياسي من «الجماعة الإسلامية» باعتبارها حركة دعوية إلى تسمية جديدة هي حركة «الاتجاه الإسلامي»، وأعلنت تنظّمها في شكل حزب يطالب بحقه في العمل السياسي والانخراط في المجتمع المدني... تحرّك النظام البورقيبي وألقى بقيادات التنظيم في السجن مثبّتا نظام الحزب الواحد المستبدّ رافضا بإطلاق فكرة التعدد الحزبي، غير أن الحركة قد واصلت جهدها في العمل الاجتماعي والمؤسسات التعليمية وبدأت تكتسح الساحة الطلابية بأفواج من الطلبة القادمين من معاهد ثانوية، وهم يحملون تصوّرا إسلاميا للسياسة واندهاشا عاطفيا بفيلم «الرسالة» للعقّاد وانبهارا بمشهد سقوط «شاه إيران» وحنينا إلى معاودة عهد النبوة الأوّل.

وجاء الإعلان عن تأسيس «الاتحاد العام التونسي للطلبة» في الجامعة كاتحاد طلابي يحمل مرجعية إسلامية، كانت ضربة موجعة للتيار اليساري والتيار القومي في «الاتحاد العام لطلبة تونس» ، فوقعت مصادمات عنيفة بين الاتحاد اليساري والاتحاد الإسلامي في الجامعة آذنت بتغير المشهد السياسي والفكري في الجامعة التونسية...وبعد سنوات قليلة ستتحول الساحة الطلابية إلى قلعة منيعة للإسلاميين شكلت رافدا لحركة تتأهب لمواجهة النظام القائم زمن «بن علي» في بداية التسعينيات.
أخذت الفكرة اليسارية في التراجع جماهيريا وكذلك شأن الفكرة القومية الناصرية والبعثية، أمام اكتساح ثابت وكثيف للحركة الإسلامية التي دفعت إلى الجامعة بأعداد وافرة من الطلبة الذين يحملون وعيا سياسيا ودينيا .

تحولت تلك الجماهير إلى معارض حقيقي ومخيف لاختيارات النظام البورقيبي، بل كانت مناوئا متشددا للحزب الاشتراكي الدستوري أو «التجمع الديمقراطي» لاحقا... في سياق تاريخي شهد هزيمة الجيوش العربية عام 1967 ، واجتياح اسرائيل للبنان وحصار بيروت سنة1982 وفظاعات مجازر صبرا وشاتيلا، كانت إعلانا عن انهيار النظام العربي القائم وسقوطا مدوّيا للمقولات القومية الحالمة وفشلا ذريعا لأنظمة استبدادية موالية للمشروع الأمريكي وللامبريالية الغربية، أو لأنظمة أخرى اصطفّت خلف متراس كتلة اشتراكية كلّيانيّة و قمعية ... إنّها عودة صوفية إلى الله.

بعد سلسلة من الأزمات الداخلية في تونس : الاحتجاجات الاجتماعية سنة 1978، والتمرد المسلح في أحداث «قفصة» عام 1980، وانتفاضة الخبز سنة 1984 ... بدا واضحا أن الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لدولة بورقيبة قد انهارت، وأن الصراع حول خلافة الزعيم المريض قد اشتدّ داخل الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، وأصبحت المواجهة حتمية بين السلطة القائمة للدولة البورقيبية المترهّلة وبين الحركة الإسلامية الشابة لاتجاه إسلامي يبتني ذاته ، في مقابل معارضة سياسية تتهاوى وتفقد شرعيتها لدى الجماهير شيئا فشيئا.

اختار نظام بورقيبة أن يواجه حركة الاتجاه الإسلامي بإرادة القوة التي تحتكرها الأجهزة الأمنية فاستدعى الجنرال «زين العابدين بن علي» وكلّفه بإدارة الأمن الداخلي، ثم سرعان ما أضاف إليه وزارة الداخلية برمّتها . كان «بورقيبة» الشيخ قد فقد قوته فأراد أن يتصدّى للمعارضة الإسلامية مستعينا بقائد عسكري وقد اعتقد خطأ أنّ زعامته التاريخية وموروثه النّضالي يشكّلان حصانة ومنعة ضد كل الطامحين في السياسة والحكم ، وهذا الصدام لم يكن بين بورقيبة وبين الاتجاه الإسلامي وحسب وإنّما هو صراع بين نمطين سياسيين حول الهويّة العربية الإسلامية لتونس.

بدأت المواجهة الأمنية بين نظام بورقيبة وبين حركة الاتجاه الإسلامي، مظاهرات يومية لمئات الشباب تجوب أحياء العاصمة تونس ومصادمات عنيفة في سائر المدن الكبرى وبلغ العنف ذروته في تفجيرات النزل السياحية بسوسة صائفة سنة 1987. من قام بذلك ؟ هل صدرت أوامر من قيادة الحركة بتصعيد العنف ضد النظام؟ أم هل هو شباب إسلامي متحمّس من جهة الساحل اتخذ قرارا مستقلا بضرب قطاع السياحة وإضعاف النظام اقتصاديا استجابة للواجب الديني حسب اعتقادهم؟...
إنّنا نفتقد في هذا الموضوع إلى إجابات دقيقة لأنّ تنظيم الاتجاه الإسلامي كان تنظيما سريّا بالأساس، ثم إنّ جهاز أمن الدولة يتحوز قطعا على الوثائق التاريخية التي توفر الأجوبة المقنعة ... والأكيد أنّ من نفّذ تلك التفجيرات كانوا من الإسلاميين.... كان عنفا للدولة قابله عنف مضادّ لحركة تبحث عن الشرعية وفق المنوال الإيراني الذي أسقط الشاه بقوة الجماهير «المتأسلمة»، كانت حرب استنزاف للدولة القائمة في تونس وحرب إنهاك للحركة الإسلامية الفتيّة، ولاح جليّا أنّ بورقيبة بات يحتضر سياسيا وأنّ الصّراع الدائر سوف يفضي إلى أمر مّا في تونس ...

خلال سنة 1987 كانت بعض القيادات الإسلامية وعلى رأسهم «راشد الغنوشي» في غيابات السجن، وتحركت قيادات الصفّ الثاني في اتجاه محاولة حسم الصراع بضربة قاصمة أو بانقلاب يطيح نظام الحكم بالقوة ويرتقي بالحركة الإسلامية إلى سدّة الحكم، وهو ذات ما وقع في الأنموذج السوداني لاحقا مع «حسن الترابي» و»عمر البشير» ... قبل يوم واحد من تاريخ التنفيذ بادر «زين العابدين بن علي» رجل النظام الأقوى بتاريخ 7نوفمبر من سنة 1987إلى الانقلاب على «بورقيبة» مستعينا بآمر الحرس الوطني آنذاك «الحبيب عمار» وبعض القيادات العسكرية . ما هو دور المخابرات الأجنبية في إفشال المشروع الإسلامي الانقلابي؟ وكيف رجّحت الكفّة لفائدة الحركة الانقلابية لبن علي كي يعيد إنتاج نفسه من داخل بنية النظام المتآكلة ؟

بعد أيام ألقي القبض على مجموعة تسمّت بمجموعة «الإنقاذ الوطني» تزعمها «صالح كركر» وكان من بينها الأستاذ «المنصف بن سالم» ومجموعة من الأمنيين والعسكريين والمدنيين واستشهد الرائد «محمد المنصوري» من الجيش الوطني تحت التعذيب الشنيع بإدارة أمن الدولة . حملت تلك العملية دلالات عميقة وهي أن حركة الاتجاه الإسلامي تطمح بالفعل إلى الاستيلاء على الحكم وأنها قد اخترقت جدران المؤسستين الأمنية والعسكرية في مواجهتها للنظام ...إثر ذلك دخلت الساحة السياسية في هدنة دامت أربع سنوات من عام 1987 إلى عام 1991 وكان كل طرف يتجهز لمنازلة خصمه.

شهد المجال السياسي انفراجا في تونس وأرسل «بن علي» إشارات مطمئنة الى المعارضة ووعودا بالإصلاح واحترام الحريات تؤكد رغبته في التأسيس لنظام ديمقراطي تتعدد فيه الأحزاب والأفكار فأطلق سراح جميع المساجين السياسيين ، ووقّعت حركة الاتجاه الإسلامي على ميثاق وطني امتلأ بوعود الحريات والحقوق ومبشرا بنظام عادل غير أنه خلّب. ثم تنازلت حركة الاتجاه الإسلامي عن خصوصيتها الإسلامية وتحولت إلى مسمّى جديد هو «حركة النهضة» وأصدرت جريدة الفجر لتكون صوت هذا التيار إعلاميا.

بلغت الحركة الإسلامية أوج قوتها سنة 1987 كانت دولة داخل الدولة واكتسحت كل القطاعات في التعليم والصحة والإدارة وحتى المؤسسات الأمنية والعسكرية وبعض التنظيمات المدنية والنقابية ...كانت حركة سياسية ذات قاعدة شعبية واسعة تعتدّ بكثرتها وتجسّد ذلك في انتخابات سنة 1989 حين برزت كأكبر منافس للحزب الحاكم وامتلأت بغرور الذات، وكانت سائر الأحزاب اليسارية والقومية وبعض «اللوبيات» الاقتصادية والفرونكفونية تنظر بخوف إلى إسلام سياسي متشدد ومتعاظم يفرض ذاته في المشهد السياسي التونسي، كانت «فوبيا» حقيقية ستمهد لفكرة الاستئصال والاجتثاث.

في صائفة 1990 التهبت منطقة الشرق الأوسط، فقد تحركت الجيوش العراقية واحتلت الكويت في بضع ساعات ونشأت أزمة عالمية حادة سوف تفتّت عالما ضخما هو الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الموالية له، وتفضي إلى نشأة نظام القطب الواحد وإلى تفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بما فيها المجال العربي والإسلامي وكأنّ سيرورة التاريخ قد توقفت وفق تصوّر «فوكوياما» في نظرية نهاية التاريخ... تحطم الجيش العراقي في الكويت تحت الضربات الجوية الساحقة، وتزعزع نظام صدام حسين، وانتهت الأحلام الوردية لفكرة قومية اعتقدت طويلا في مشروع الوحدة العربية، كانت نكبة مؤلمة وحزينة.

أثناء الحرب استغلت قيادة النهضة تلك الحماسة الشعبية الملتهبة لنصرة العراق وبدأت في تجييش أنصارها استعدادا للانهيار الوشيك للنظام العربي، وبلغ الغرور حدّا دفع بعض الإسلاميين إلى تبادل التهاني بقرب ميلاد الدولة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية . امتصّ نظام «بن علي» تلك الأزمة المضنية بحرفيّة وأظهر في العلن رفضه للتدخل الأمريكي استجابة للضغط الشعبي، وإن كان قد أضمر تعاونا وثيقا مع الإدارة الأمريكية ...
وحين انهالت الصواريخ العراقية على إسرائيل استعان «بن علي» بالجيش التونسي الذي أحكم السيطرة على المراكز الحساسة في العاصمة تونس تحسبا لمسيرات شعبية ضخمة قد توظفها الحركة الإسلامية للإطاحة بالنظام ... وأصاب صاروخ «توماهوك» ملجأ «العامرية» في بغداد وأدى إلى حرق أكثر من ألف عراقي في داخله، وخرج في مدينة سوسة وحدها آلاف المتظاهرين، اكتسحوا المدينة طيلة يوم كامل دون أن يشتبكوا مع الجهاز الأمني، ولم تحسن الحركة الإسلامية توظيف ذلك الاندفاع الشعبي وهيجان الضمير القومي والديني . صمد الجهاز الأمني لبن علي في مواجهة أزمة حقيقية واستطاع الخلاص منها بأخف الأضرار السياسية، في حين أن حركة النهضة الممتلئة بجماهيرها وشعبيتها وقوة تنظيمها الداخلي قد فشلت في توظيف الأزمة لفائدة مشروعها وأساءت تقدير قوة النظام أو استقراء الواقع الدولي آنذاك.

بعد أشهر قليلة من نهاية حرب الخليج الأولى بدأ نظام بن علي تنفيذ حرب قذرة ضد خصمه الإسلامي وكان واضحا أن الأجهزة الأمنية والاستخبارية لوزارة الداخلية قد استعدت جيدا للمنازلة ورصدت كثيرا من الإمكانات لحسم المعركة ضد أتباع الحركة الإسلامية والمتعاطفين معها ... لقد قرر الحلف القائم داخل النظام والمتكون من دستوريين قدامى والبعض من اليسار المتطرف والفرنكفونيين ولوبيات مالية الشروع في عملية تطهير شاملة داخل النسيج الاجتماعي التونسي، واقتلاع الإسلام السياسي من جذوره وتحطيم خصمه اللدود، ولن تقتصر الحملات الأمنية على القيادات السياسية وإنما ستتجاوز ذلك إلى كل فرد يشتبه في تبنيه للفكرة الدينية .

بدأت المواجهة الدامية في أحداث «باب سويقة» وحرق مقر التجمع الدستوري الديمقراطي ،ثم جاءت مجزرة المركب الجامعي بتونس حين أذن بن علي بإطلاق الرصاص الحي على الطلبة المتظاهرين فقتل وجرح عددا من الطلبة. كان مصّرا على كسر شوكة الحركة الطلابية التي توظفها المعارضة الإسلامية كرأس حربة . ولم تكن تلك الأحداث سوى إعلان للحرب الشاملة بين النظام الحاكم بكل تشكيلاته الأمنية والحزبية وبين الحركة الإسلامية المعارضة والطامحة إلى السلطة ... مظاهرات احتجاجية في أحياء المدن الكبرى اتسمت بالعنف المتبادل بين قوات الأمن وشباب ومناضلي حركة النهضة...
لجأ نظام بن علي حينها إلى إنشاء «لجان اليقظة» وهي ميليشيات تابعة للحزب الحاكم تقتصر مهمتها على اقتفاء أثر الشباب الإسلامي في الأحياء والتجمعات السكانية،
ثم اتخذ قرارا بمحاصرة المساجد وغلّق بعضها واعتقل كل من يتردد إليها للصلاة فيها، حتى تحول مسجد المركب الجامعي بتونس إلى خرابة للرذيلة، وأصبح التدين في تونس جرما خطيرا يفوق كل أنواع الإجرام، كان إقصاء واجتثاثا جماعيا يعادل عمليات التطهير العرقي في محاكم التفتيش في اسبانيا ضد مسلمي الأندلس... اعتقل آلاف التونسيين ممن تبنوا فكرة الإسلام السياسي فعذبوا أو أطردوا من أعمالهم أو حرموا حقهم في الدراسة أو قطعت أرزاقهم وطال العقاب الجماعي عائلاتهم، هو عقاب جماعي لكل بقايا الفكر الديني في أرض تونس ...

يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.