عندما انهار «التجمع» الذي حكم البلاد على مدى عقود يوم 26 مارس 2011، انهار معه كل شيء.. انهار النظام وصقوره ومؤسساته وسنوات الجمر والاستبداد والخوف والرعب السّاكن في القلوب وفي العيون.يوم خرج التونسيون لمطالبة بن علي ونظامه الخانق بالرحيل إلى غير رجعة وجاوبتهم زخّات رصاص الأمن ووابل الغازات المسيلة للدموع بالكفّ عن المطالبة بالرحيل كانت قلوب بعضهم تنشد بعض ما قاله الشاعر أحمد مطر ذات مساء «فاضت علينا الطلقات واستفاضت قوّة الأمن بتفتيش الرئات وبرفع البصمات عن أمانينا»... كان كلّ شيء يقبل الاحتمال إلاّ إرادة الشعب التي خيّبت ظنون صقور بن علي...إنها إرادة تفتيت الحزب المتغوّل وأذرعه مثل تفتيت رغيف الخبز... يومها لم يعلم العالم أنّ ثورة التونسيين كانت كما الأيقونة على النار الهادئة.لا يمكن الحديث عن سقوط الحزب الحاكم سابقا دون الإطلال على التاريخ من جديد، فلحظة سقوط هذا الحزب كانت كما الحتميّة المتخفّية خلف التوقّعات والتنبّؤات ببداية سقوط ونهاية حقبة من الاستبداد والقراء الجيّدون لنصوص العلامة ابن خلدون يدركون هذا الأمر جيّدا غير أنّ قوّة الآلة الإعلامية الدعائية التي كان الحزب والنظام يستعملانها بإفراط أوهمت حتى عتاة المحلّلين السياسيين أنّ عمر هذا المتغوّل سيمتدّ أكثر في الزمن السياسي التونسي.لكن سقط هذا المتغوّل بسرعة مدويّة؟ميلاد الحزب وأوجاع الصراعبدأ الحزب الحاكم منذ تأسيسه سنة 1920 في نهج التريبينال على يد عبد العزيز الثعالبي ثمّ الحبيب بورقيبة رديفا للنضال الوطني من أجل التحرّر من ربقة الاستعمار الفرنسي وسقط آلاف الشهداء التونسيين زمن العشرينات والثلاثينات والأربعينات والخمسينات على الساحات بلا إيقاع، ففرنسا كانت تجيز القتل على أنغام النّهم الاستعماري الأوروبي.كان بورقيبة ورفاقه في بداية تأسيس الحزب يواجهون تخاذل الباي وخضوعه لقوة جيوش الغزو الفرنسية وكانت «حركة الشباب التونسي» التي نشأت سنة 1906 إحدى الإرهاصات الممهّدة لنشأة الحركة الدستورية على أيدي نخبة تونسية أمثال البشير صفر وعلي باش حانبة وحسن القلاتي وعبد العزيز الثعالبي والصادق الزمرلي وخير الله بن مصطفى وأحمد الصّافي ومحمود بورقيبة وآخرين بمرجعيات فكرية مختلفة لكنها متوحّدة حول هدف واحد هو مقاومة المستعمر وتحرير البلاد من سطوته ونهبه لخيراتها.وانطلق النضال بشكل مهيكل مع تأسيس الحزب الحرّ التونسي سنة 1920 على يد الثعالبي ورفاقه وسرعان ما برز جناح الحبيب بورقيبة فأسس تيارا جديدا أسماه الحزب الحر التونسي الجديد وبدأت رحلة النضال والصراع بين الجناحين في مرحلة أولى ليبدأ صراع من نوع آخر ومع جناح آخر هو جناح الثلاثي العنيد كما يقول الصافي سعيد في كتابه «بورقيبة سيرة شبه محرمة» اثنان في الداخل وهما صالح بن يوسف الذي يتقن لغة القانون وابن كبير تجار تونس وورث عنه حسن التصرف في الأموال ومعرفة الرجل والمنجي سليم الذي يتحدّر من العائلات البرجوازية والحبيب ثامر المعروف بحنكته وجرأته وكسبه ثقة الحزب.معركة الزعيم مع رفاق الكفاحوبدأت معركة بورقيبة مع صالح بن يوسف ورفاقه مع دعوة بن يوسف لعقد مؤتمر «دار سليم» سنة 1947 الذي سمّاه بورقيبة مؤتمر الغدر والنفاق، وافتتحت أشغاله وسط أجواء مشحونة بالخلافات الحادّة والغموض واعترض البعض على شرعية الحزب باعتبار غياب رئيسه الحبيب بورقيبة، وانتهى المؤتمر بوفاق ملغوم باختيار بورقيبة رئيسا للحزب ووضع ثلاثة نواب معه وهم الهادي شاكر ويوسف الرويسي والحبيب ثامر لكن الصراع الخفي بين الرجل لم ينته.لا يمكن فهم الالتفاف الوطني حول حزب الدستور الجديد حسب المؤرّخين التونسيين وقدرته الحاسمة على إدارة المواجهة سنة 1952 إلا من خلال النظر إلى الجهد الذي بدأ سنة 1945 لإعداد ظروف نجاح أية مواجهة قادمة، ولم يكن بإمكان هذا الجهد الاستراتيجي لقيادة الحزب أن ينجح لولا احتدام التناقضات داخل البلاد والتغييرات الهيكلية التي عرفها المجتمع التونسي، فقد خرجت البلاد منهكة اقتصاديا جرّاء الظروف الاستثنائية القاسية للحرب العالمية الثانية التي كانت تونس جزءا من مسرحها.غير أن حزب الدستور لم يكن الرقم الوحيد الذي استعصى على السلطات الاستعمارية، فقد كانت الحركة النقابية إلى جانب الحزب الشيوعي التونسي ومختلف المنظمات والجمعيات النسائية والشبابية آنذاك جزءا هاما ورقما عنيدا في الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار، ودفع آلاف النقابيين والشيوعيين دماءهم الزكيّة دفاعا عن تونس وكانت قياداتهم بزعامة المرحوم فرحات حشّاد الذي كان يحظى بتقدير جلّ القوى الوطنية في الداخل وقوى التحرّر في العالم، عرضة للسجون والمنافي والاغتيالات وكانت وفاة الزعيم حشاد القطرة التي أفاضت الكأس المرّة التي كانت فرنسا تذيقها للتونسيين.«أنا الدولة والدولة أنا»وكانت اتفاقيات الاستقلال الذاتي التي أمضاها إدغار فور والطاهر بن عمار سنة 1955 منطلقا للصراع بين جناحي بورقيبة وبن يوسف ليدخل الحزب الدستوري الجديد في أتون الخلافات التي تطوّرت إلى حدّ استعمال العنف والاغتيالات المتبادلة، وكان اغتيال صالح بن يوسف في مرحلة لاحقة المنعرج الحاسم الذي حوّل الحزب ونظام بورقيبة إلى آلة رهيبة لا ترى مانعا في استعمال القتل والإبعاد والنفي (كما حصل مع أحمد بن صالح) كوسيلة ناجعة لتصفية الخصوم السياسيين.وبدأت على يد بورقيبة في الستينات مرحلة جديدة عنوانها «أنا الدولة والدولة أنا» وانتقلت المعارك والدسائس والمؤامرات إلى القصر الرئاسي جسدتها محاولات اغتيال الزعيم المنفرد بحكم الحزب وبحكم الدولة والشعب ولم يتردّد بورقيبة في محاكمة خصومه ومعارضيه باستخدام القضاء وحشد التأييد الإعلامي لرمي المعارضين له بالخيانة والتآمر على الدولة وعلى النظام وعلى شخصه.وقد بدأت التصفية الجسدية باليوسفيين وطاردتهم في كل مكان ثم اليساريين والقوميين والشيوعيين، وازداد يقين بورقيبة بأن الديمقراطية لن تكون إلاّ نخبويّة وقد تضرّ عامّة الشعب ويسيء استخدامها إن هي أعطيت له، وبدأ خصومه يتكاثرون مع مضيّ سنوات التضييق وغلق المنافذ أمام كل محاولة للتعددية السياسية والسماح بتكوين الأحزاب فلا صوت يعلو فوق صوت بورقيبة وحزبه إلى أن حلّت سنوات الثمانين وبدأت حرب الخلافة...خلافة الرجل العجوز بسنواته الثمانين الذي تعاظمت أخطاؤه بسبب إقصائه لخصومه السياسيين والنقابيين وتزايد الصراع على المناصب باستخدام الدسائس وبدأ التفكير في التخلّص من «زعيم الأمّة» فكانت الإطاحة به ذات 7 نوفمبر 1987 على يد الجنرال بن علي الذي قرّبه بورقيبة إليه واصطفاه بعد أن وعده بكفاءته الأمنية وقدرته على ضرب الخصوم الإسلاميين واليساريين و«أعداء الوطن» بعصا غليظة... وكانت تلك العصا التي هوى بها بن علي على نظام بورقيبة الذي لم يدر بخلده، يوم كان يستقبل وزراء بن علي في الحكومة التي شكّلها حين تولّى الوزارة الأولى، أنّ هذا العسكري الماكر سوف يخطّ بيديه نهايته ونهاية حقبته.سقوط الزعيم وميلاد الغولأوهم بن علي الأطياف السياسية أنه مقبل على مرحلة سياسية جديدة وكان بيانه النوفمبري بوّابة الحلم التي فتحها أمام السياسيين والنخب التونسية التي انتظرت طويلا نهاية الزعيم، وانطلقت سريعا مراسم دفن النظام البوقيبي وإرثه إلى دون رجعة فكان اللجوء، بتدبير من المحيطين به، لنسف حزب بورقيبة في مؤتمر الإنقاذ سنة 1988 وتأسيس حزب جديد لولا بعض الأصوات المعارضة من بقايا البورقيبيين.واستند بن علي للتخلّص نهائيا من بقايا بورقيبة إلى الفصل 57 من الدستور الذي ينص على أن يتولى الوزير الأول رئاسة الجمهورية في حالة عجز أو وفاة رئيس الجمهورية شاركه في ذلك عدد من السياسيين من أبرزهم المدير السابق للحزب الاشتراكي الدستوري الهادي البكوش ووزير الإعلام عبد الوهاب عبد الله ووزير الدفاع صلاح الدين بالي.ووضع بن علي بورقيبة رهن الإقامة الإجبارية في ضيعته في مرناق كما وقع التحفظ في اليوم نفسه على عدة شخصيات موالية له من أبرزهم الوزيران محمد الصياح ومنصور السخيري ومرافق بورقيبة محمود بلحسين.وتحول اسم حزب بورقيبة في مؤتمر الإنقاذ إلى «التجمع الدستوري الديمقراطي» لإيهام النخب السياسية أن الحزب الحاكم سيكون ديمقراطيا كما تدلّ على ذلك تسميته. لكن المفاجأة المخيّبة لآمال السياسيين وعموم التونسيين كانت في انتخابات سنة 1989 التي فاز فيها التجمّع بكل مقاعد مجلس النواب.وتأكّد للمعارضة التونسية ونخبهم المثقفة أن بيان 7 نوفمبر لم يكن غير نصّ ماكر لترويض المعارضة التي دعاها- باستثناء حزب العمال الشيوعي وبعض التيارات الأخرى الذين رفضوا الدعوة - إلى التوقيع على ميثاق وطني للتعامل السياسي بدعوى التعايش الديمقراطي.وتزايد يقين المعارضة التونسية في وقوعها في خديعة بن علي مع حلول سنوات 1994 و1999 و2004 التي حصد فيها الحزب الحاكم المتغوّل كل المقاعد غير المخصصة لأحزاب المعارضة القانونية وحصل على نسبة فاقت أو قاربت التسعين في المائة.وفي الانتخابات البلدية لسنة 2005 حصل الحزب الذي تزايدت سطوته على أكثر من 4 آلاف مقعد من أصل 4.366 في المجالس البلدية وفاز مرشحه ورئيسه بن علي في الانتخابات الرئاسية لسنوات 1989 و1994 و1999 و2004 بنسبة فاقت في كل مرة 90% .لحظة السقوط المدويّةوبدأت ذراع النظام النوفمبري تتغوّل تدريجيا وأمسك العسكري المستبدّ بجهاز الدولة فكان التعيين في الحكومة وفي كلّ مناصب الدولة محرّما على غير المنتمين للحزب الحاكم إلاّ من تسلّق منهم أعمدة التزلّف والهرولة نحو قصر قرطاج وفتح باب الحزب على مصراعيه للعائلة الحاكمة ولأنفار من الانتهازيين والطفيليين.واستمدّ الحزب الحاكم –سابقا- قوّته ممّا كانت تضخّه له الدولة وأصحاب المال والأعمال قسرا، فلا أحد كان يجرؤ على قول «لا» لهذا الحزب المتغلغل في كلّ أجهزة الدولة باستثناء بعض المعارضين الشرفاء من اليساريين والإسلاميين والقوميين..وهؤلاء كانت السجون والمنافي والملاحقات والمضايقات الأمنية تمنعهم حتى من الالتقاء على مائدة واحدة فكلّ شيء كان تحت أنظار ميليشيات الحزب وعيون الأمن السياسي التي كان بن علي يحرّكها في كل الاتجاهات ويستخدم آلة الإعلام وأجهزة الدعاية في الداخل والخارج لينعتهم «بالمناوئين» و«أعداء الوطن» ولم يدر في خلده يوما أنّ من كان يسمّيهم أعداء الوطن سيخطّون بأيديهم شهادة وفاة حزبه الحاكم ذات جمعة في 14 جانفي يوم رفعوا لوحات حملت عبار «Dégage» التي اختزلت كل مساحات الغضب الرابض في القلوب وفي الحناجر ولم تفلح طلقات الرصاص التي فاضت على الرّؤوس في إثنائهم وسالت دماء الشهداء «من أجل تلك اللحظة التاريخية» على أيدي من لم يعرف الهرم سبيلا إلى قلوبهم.