كان لمختلف مكوّنات المجتمع المدني دور مهمّ وبارز طيلة الفترة التي تلت ثورة 14 جانفي وخاصّة في تأمين إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في المراقبة ومرافقة أعمال الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والهيئات الجهويّة، ومن المؤكّد أنّ للمجتمع المدني أدوارا كذلك خلال المرحلة الحالية وخاصة في المساهمة في إعداد الدستور القادم لتونس. «مركز المواطنة والديمقراطيّة» بادر بتقديم تصوّر من أجل استشارة شعبيّة واسعة لبناء دستور الجمهوريّة الثانية، في ما يلي نص المبادرة: مثلت ثورة 14 جانفي 2011 نقطة البداية لعملية انتقال ديمقراطي حقيقي بالبلاد التونسية ، وقد جسم الإقبال الجماهيري الكبير على انتخابات المجلس التأسيسي أحد المظاهر الرئيسية لهذه النقلة النوعية في المشهد السياسي الوطني . والمجلس التأسيسي باعتباره هيئة منتخبة من عموم الشعب يمثل الشرعية الحقيقية لإرادة الشعب من أجل صياغة دستور جديد للبلاد يعكس تطلعات الشعب بكل فئاته ولكننا نعتقد أن عملية بناء الدستور يجب أن تكون تشاركية تدفع المواطنين لوضع أهم المبادئ والحقوق التي تعالج القضايا الهامة لهم في هذه الوثيقة التاريخية التي ستحدد مصيرهم لعدة عقود . أهداف الصيغة التشاركية لوضع الدستور إن تشريك المواطنين في عملية بناء الدستور هي في غاية الأهمية إذ تؤكد الشرعية وتشجع على مشاركتهم السياسية الواسعة وتعزز ملكيتهم للدستور ومن ثم فإن هذه العملية تمكن المواطنين من الإحساس بأن الدستور هو كتابهم السياسي الذي ساهموا في صنعه وصياغته مما يدعم شعورهم بالانتماء للجماعة الوطنية وهو جوهر المواطنة ويعزز الثقة بين نواب المجلس التأسيسي الذين انتخبهم الشعب من ناحية وكل عموم المواطنين من ناحية أخرى. إننا نعتقد أن هذه الاستشارة الشعبية ستجعل الفاعلين السياسيين والنقابيين وكل مكونات المجتمع المدني كتلة دستورية واحدة تعمل معا رغم اختلافاتها وتناقضاتها من أجل إرساء حوار دستوري بينها يكون السبيل لتحقيق التوافق على أهم مفاصل الدستور القادم . إننا نرفض سلوك قنص الأخطاء أو وضع أعضاء المجلس التأسيسي في دائرة الضغط عبر الدعوة لتأسيس مجلس تأسيسي موازي لطرح مشروع دستور موازي أيضا سيعرض للاستفتاء العام ، إنه كان من الأولى تأسيس هيئة عليا لجمعيات وشبكات المجتمع المدني التونسي مستقلة عن المجلس التأسيسي ولكن تسعى إلى التعاون معه وتقديم المقترحات الدستورية له والتنبيه على النواقص في أدائه والبحث مع نوابه عن الحلول الملائمة للمرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا. الوسائل المقترحة إن القيام بحملة توعية وتشاور عام في إطار عملية بناء دستور تشاركية لهي من أوكد المهام في هذه المرحلة التأسيسية ويمكن اقتراح الأساليب التالية لهذا الهدف: 1) استطلاع للرأي واستبيانات عامة: يمكن لأعضاء المجلس التأسيسي كل في دائرته تبني هذه الفكرة وانتداب الآلاف من المعطلين عن العمل خاصة أصحاب الشهادات الجامعية لتكوينهم بالاستعانة مع مكونات المجتمع المدني والخبراء الدوليين المهتمين بهذا المسعى وإنجاز استبيان موحد يطرح على المواطنين جملة من الخيارات المتعددة حول المبادئ الواجبة تضمينها في الدستور. إن هذا العمل سيكسب الجماهير ثقافة دستورية هم في أمسّ الحاجة إليها في هذه المرحلة الهامة التي تمر بها بلادنا. إننا نعتقد أن تشريك مليوني مواطن عبر هذا الاستبيان في كل الدوائر الانتخابية داخل الجمهورية وخارجها هو هدف ممكن التحقيق والإنجاز .ونذكر في هذا المجال بتجربتنا في مجال الملاحظة الوطنية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي إذ استطاعت شبكات المجتمع المدني المختلفة من تجميع وتكوين قرابة 14 ألف ملاحظ وطني في مدة ثلاثة أشهر تقريبا وقد كان حماس المواطنين للمشاركة في تلك المهمة لافتا وجيدا جدا . إن جمع وتحليل كل المعطيات الواردة من الاستبيانات لاشك أنها ستعطي المجلس التأسيسي مادة شعبية دستورية ضخمة تعكس تطلعات الجماهير وتمكن أعضاء المجلس التأسيسي من الاعتماد عليها عند كتابته للدستور. 2) جلسات شعبية وندوات سياسية : نعتقد أن أكبر تحدي على أعضاء المجلس التأسيسي يكمن في التواصل المباشر مع الناس، خاصة الشباب والنساء ومواطني الأرياف والجبال، هذا التواصل سيقطع مع ممارسات النواب في الماضي عند تعاطيهم مع المواطنين وسيعزز ثقة الناس في ممثليهم بالمجلس التأسيسي.هذه الجلسات يجب أن تكون للإنصات والاستماع ولا للاستعراض والدعاية . 3) التواصل المعلوماتي : من المعلوم أن كتابة المجلس الوطني التأسيسي ستضع على ذمة المواطنين موقعا إلكترونيا مفصلا لنشاطاته ولكن المطلوب أن يكون هذا الموقع تفاعليا حتى يمكن لكل مواطن من إبداء رأيه وتقديم المقترحات الضرورية للنواب دون حواجز أو تأخير. كما أن الاستعانة بصفحات الشبكات الاجتماعية ووضع فريق قادر على الرد على كل التساؤلات والاستفسارات الموجهة من عموم المواطنين سيكون توجها ذكيا ومناسبا مما سيحدث حركية حقيقية في هذه الشبكات بما ينفع المجتمع التونسي مستقبلا. 4) الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب : هذه الفضاءات الإعلامية المتعددة لابد من فتحها للجميع دون استثناء، علينا أن نستمع إلى بعضنا البعض مهما كانت اختلافاتنا فالإنسان كما يقول نيلسون مانديلا لا يمكن أن يتحاور مع ذاته بل علينا أن نكثف حواراتنا دون ملل و أن لا نخاف من الجدل السياسي والفكري فذلك هو الذي سيحقق لنا التوافق الضروري لصياغة دستور ديمقراطي. 5) تشريك خبراء وطنيين وممثلي المجتمع المدني في اللجان المتفرعة عن المجلس التأسيسي لمناقشة وصياغة الدستور والاستفادة من مقترحاتهم . إننا نعتبر إن صياغة دستور الجمهورية الثانية يأتي عبر مسار دستوري وطني تشاركي يعبر عن عقد اجتماعي وسياسي جديد مبني على التوافق ومصلحة تونس العليا ، هذا المسار الدستوري ليس عملا تقنيا بحتا من طرف بعض الخبراء في القانون الدستوري رغم أهمية أرائهم وهو ليس أيضا عملا يستنسخ مبادئ دستور بعض البلدان التي مرت بعملية انتقال ديمقراطي لأنه ليس هناك دستور مثالي للإتباع والنقل بل هو وثيقة قانونية وسياسية تعبر عن اللحظة التاريخية التي يمر بها شعبنا لتجسيد أهداف ثورته المجيدة . إننا نعتقد أن المسار الدستوري يجب أن يمر بأربع مراحل وفقا لنموذج الساعة الرملية: استشارة شعبية لجمع تطلعات الشعب وانتظارته. حوار جدي ومفتوح بين نواب المجلس التأسيسي ومختلف ممثلي الأحزاب داخله وخارجه ومع مكونات المجتمع المدني. صياغة الدستور وإعادة مناقشته من طرف نواب المجلس التأسيسي. عرض النسخة النهائية للدستور على الاستفتاء الشعبي. إن توضيح المسار الدستوري لكافة فئات الشعب سيعزز ثقة المواطنين في المستقبل ويوجد حركية هامة داخل المجتمع التونسي لبناء ديمقراطية حقيقية يستحيل الرجوع بها إلى عهود الاستبداد والقهر مهما كان مأتاها.