ما هي حدود علاقة الفنان أو المبدع بالسياسة؟ وهل يمكن أن نتحدث عن فنان محايد؟ ولماذا نطلب من الفنان أن يكون ملتزما بفكر سياسي محدّد؟.. أسئلة عديدة طرحناها على الفنان المسرحي نور الدين الورغي. يعد نور الدين الورغي من الفنانين القلائل في المجال المسرحي الذين مازالوا يحملون أفكارا سياسية ثورية وتحرّرية، ظل محافظا عليها منذ أكثر من ثلث قرن تعرض خلالها، الى صنصرة العديد من أعماله آخرها مسرحية «محمد الدرّة» التي لم تحرّرها الرقابة إلا بعد إحداث تغييرات فيها. «الشروق» تناولت قضية «الفنان والسياسة» معه فكان الحوار التالي: ما هي علاقة نور الدين الورغي الفنان بالسياسة؟ هي علاقة كل فنان له مواقف ثابتة، فالفنان هو في صراع دائم أو في حالة صدام مع السياسة، لأن السياسة كما تعلم متغيرة على عكس مواقف الفنان أو المبدع.. فالفنان هو فرد من المجتمع يتأثر بكل ما يحيط به، من سياسة وقضايا ومعيش يومي وكل هذا تجده في إبداع الفنان سواء كان مسرحا أو سينما أو فنا تشكيليا. ولكن الفنان أو المبدع كفرد من المجتمع يمكن أن يتأثر بسياسة ما أو زعيم سياسي، فينصهر في سياسته ويضمنها في إبداعاته؟ المبدع الحقيقي لا يستطيع أن يكون في صلب حزب ما، قد يتأثر بأفكار سياسية ولكن أن يقوم بالدعاية لها، فهذا من شأنه أن يخنق المبدع والابداع، ومثال ذلك ماكسيم غوركي ومايا كوفسكي اللذين كانا من أكبر مناضلي الثورة البولشيفية ومساندي ستالين وتروتسكي من 1905 الى 1920، كيف انتهيا؟ استقال غوركي وانتصر مايا كوفسكي! لماذا؟ لأنهما اكتشفا مساوئ كثيرة في سياسة الزعيمين الروسيين، فالفنان لا يستطيع أن يكون في صلب حزب سياسي، والأفضل في نظري أن يكون في جميع الأطر الحزبية حتى يستطيع أن يقدم الافادة والاضافة، كما يمكن التفكير بحرية بعيدا عن الدغمائية والانضباط الحزبي. المبدع يستشرف المستقبل ويهيّئ للثورات مثل غوركي وغيره من المفكرين الروس الذين استفادت منهم الثورة البولشيفية كثيرا.. في رأيي السياسة والأحزاب هي التي يمكن أن تستفيد من المبدع وليس العكس لأن استقلالية المبدع وما يتميز به من خلفية فكرية يمكن أن يفيد الأحزاب الوطنية كثيرا. على الأحزاب الوطنية في تونس الآن أن تستمع الى دقات قلب المبدع حتى وإن كانت غريبة في بعض الأحيان، لأنها تحمل نبض الشارع. فالكاتب الشهير جون فيرن لما وضع رواية «دورة حول العالم في 80 يوما» بدا غريبا في وقته في القرن التاسع عشر، ولكن ما كتبه تحقّق. إن استقلالية المبدع ليس هروبا أو تملّصا من المسؤولية، فهو في عمق الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وعندما نتحدث عن المسرح، فجلّ المسرحيات التي كتبتها منذ 30 سنة، من «محمّد الدرّة» الى «تراجيديا الديوك» و«جاية من غادي» التي اعترضت عليها الرقابة في الأول عام 2008، تنبّأت بالاهتزازات والارتجاجات التي عاشتها البلاد والوطن العربي عموما. فالسياسي المحنّك لا يستطيع أن يسدّ أذنيه ويغمض عينيه أمام كتابات المبدعين، كما لا يمكنه اعتبار ما يبدعونه هذيانا أو ثرثرة، لأنه (ما يبدعونه) من نبض الشارع. تحدثت عن ضرورة استقلالية المبدع، هل يمكن أن نتحدث عن مبدع مستقل أو محايد؟ بطبيعة الحال، لأن ذلك مستحيل، ولكن يجب على الفنان أن لا يكون مسيّسا أو متحزّبا لأن ذلك يحدّ من حريته ومثال ذلك مناضلو الثورة البولشيفية الذين تحدثنا عليهم كغوركي ومايا كوفسكي.. إن الفنان الذي لا يحمل خلفية فكرية وسياسية لا يمكن أن يبدع فنانا مقنعا يتجاوب معه الجمهور، لا بدّ أن يكون للفنان موقف تجاه ما يراه وما يعيشه شعبه. شهدت الساحة الثقافية في المدة الأخيرة حملة كبيرة على الفنانين والمبدعين الذين عملوا أو تعاملوا مع النظام السابق.. ما هو موقفك من هذه الحملة؟ هناك من المبدعين من اختار أن يخدم ركابا معينا لا يخدم مصالح الشعب، على المبدعين الشرفاء في نظري، أن يناضلوا ضدهم بكتاباتهم وإبداعاتهم خلال فترة النازية. كان هناك مبدعون كبار، مثل بريشت نشطوا في نفس الوقت مع منظري هتلر. النضال في نظري ليس بالكلام وكشف الفضائح وإنما بالابداع. أعتقد أن هذا الصراع قد يحتدّ أكثر الآن وفي الأيام القادمة. فنحن نمرّ بأصعب مرحلة يمرّ بها المبدع لأنه يعلم أن ثورة الفكر ستبدأ اليوم. هناك من الفنانين الذين تمعّشوا كثيرا من النظام السابق، وما أن سقط النظام حتى سارعوا الى ارتداء زيّ المناضلين و«الثوار»؟ صحيح، الثورة يقوم بها الأبطال والشرفاء، ويأكل ثمرتها الجبناء، وهذا ليس غريبا لأن التاريخ مليء بمثل هؤلاء «الرهوط». كتبت في المدة الأخيرة أشعارا كثيرة ضد بعض الحركات الدينية المناهضة للحريات الى درجة أنك وصفت عناصرها بالضباع، هل تعتقد أن هذه الحركات تمثل خطرا على الابداع؟ أنا كتبت عن كل أعداء الحرية لأنهم يمثلون خطرا على الابداع والمجتمع والبلاد على حدّ السواء، وهذا مثال من هذه الكتابات. وين كانوا وين كانو ! زمان العذاب في زمانو! وين كانو زمان العقول تهانو..! وين كانو زمان الفنانين يعانو..! وين كانو زمان الضبوعة خانو..! وين كانو زمان الغيوان بانو! وين كانو زمان الكلام وصوّانو ! وين كانو زمان الزكرة والبيانو ! وين كانو زمان الزهور لانو ! وين كانو زمان الليالي السود بالقوافي تزانو! وين كانو كمل الأبيات يا صاحبي ليالي النضال حانو.