إني المذكور أسفله كنت قد كُلفت خلال شهر أفريل الماضي، عبر مكتوب رسمي من طرف السيد رئيس جامعة الزيتونة، ب«تحكيم» كتاب صادر عن مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان يحمل عنوان نظام اللسان ومنهج البيان في تحليل الخطاب الشرعي الإسلامي. نعم هو تكليف ب«تحكيم» كتاب منشور خلافا لمنطق التقاليد الأكاديمية المعروفة حيث يسبق التحكيم النشر، لكن لا غرابة أن تسير الأمور على خلاف طبيعتها في جامعة الزيتونة. المهم أني أنجزت العمل المطلوب الذي استغرق منّي شبه تفرغ لشهر كامل من العمل المتتابع وقدمت تقريرا إلى السيد رئيس الجامعة بتاريخ 15 ماي 2018 عن طريق مدير مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، كما أودعت نسخة من هذا التقرير بالإدارة العامة للبحث العلمي بتاريخ 27 جوان 2018 وسلمت أخرى إلى السيد كاتب الدولة للبحث العلمي بصورة شخصية بتاريخ 28 جوان 2018. وقد خلصت في هذا التقرير إلى أن الكتاب أبعد ما يكون عن المواصفات التي يجب أن تتوفّر في العمل الأكاديمي الجدير بأن يصدر عن مركز بحث علمي. وقد بنيت هذه النتيجة في مستوى أول على استدلالات وتحليلات قمت بها وبيّنت من خلالها كيف أن الكتاب مبني على إخلالات واخطاء معرفية فظيعة غير مسموح بها حتى في أعمال الطلبة والباحثين المبتدئين، فما بالك بعمل ترشّح به صاحبه لخطة أستاذ تعليم عال ونالها بعد أن باركه كبار علماء الزيتونة (أعضاء اللجنة التي درست ملفات الارتقاء لخطة أستاذ تعليم عال في مادة الفقه وأصوله). ولكني لن أدخل هنا في تفاصيل هذه الجوانب المعرفية التي ستكون ربما مدار مقال مطوّل ذي طابع أكاديمي، إذ ما أريد التنصيص عليه هو المستوى الثاني الذي أسّست عليه حكمي على هذا الكتاب والمتعلّق بما تضمّنه من مظاهر ثابتة وموثّقة في الانتحال والتمويه. وأتحدّث عن الانتحال هنا، بالمعاني التي ضبطها الأمر عدد 2422 المؤرخ في 23 جوان 2008 في فصله الرابع، منها «النقل الحرفي للنصوص» و«ترجمة استشهادات عن مؤلفين آخرين» و«عدم وضع الاستشهادات المنقولة عن مؤلفين آخرين وترجمتها بين معقفين». وقد ثبت لديّ أن الكتاب متوفّر على مساحات واسعة جدا ممّا يدخل تحت باب هذه الظواهر الانتحالية وقد قدمت في تقريري أمثلة موثّقة على سبيل النمذجة، لا على سبيل الحصر. أما التمويه فأعني به الإيهام بالتعامل المباشر مع المصادر والمراجع في حين تقوم قرائن قوية في بعض الأحيان وأدلة قاطعة في أحيان أخرى على أن الكاتب ينقل عن مراجع يخفيها ويحيل مباشرة على المصادر الأولى. وأنا إذ أكتب هذه الرسالة المفتوحة، فلأني بتّ على يقين بأن تقريري سيكون مصيره التجاهل من قبل الطرف الذي طلبه (جامعة الزيتونة) والطرفين المعنيين بمتابعته (كتابة الدولة للبحث العلمي والإدارة العامة للبحث العلمي).أعرف أن هذه المظاهر من الانتحال والتمويه غدت مستفحلة في الجامعة التونسية، وهو أمر «طبيعي» في تقديري، لأنها جزء لا يتجزأ مما تعرفه بلادنا اليوم، في جميع المجالات، من استشراء لظواهر السرقة والفساد واعتماد الوسائل الدنيئة وغير المشروعة في تحقيق المآرب الشخصية. وليست لي في حقيقة الأمر أوهام بشأن وجود إرادة عامة (سياسية أو غير سياسية) لمحاربة مثل هذه الظواهر، سواء في الجامعة أو في غير الجامعة. وأعرف أن صاحب الكتاب ليس أول من نال درجة جامعية لا يستحقها معرفيا وليس أول من اعتمد أسلوب ال«couper/coller» بهذه الدرجة ليوهم بأنه يحمل أسفارا، ولن يكون الأخير. وقد كنت سأتفهّم عدم تفاعل إدارة مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان ورئاسة جامعة الزيتونة وإدارة البحث العلمي وكتابة الدولة للبحث العلمي مع تقريري هذا، وكنت سأقبل الموقف الضمني لهذه الأطراف الذي مؤداه: «شكر الله سعيكم»، لو أني بادرت بتقديم التقرير من تلقاء نفسي مدعيا أني «مواطن صالح» أنجزته «غيرة على الجامعة التونسية ومستواها العلمي» و«دفاعا عن المعايير الأكاديمية والقيم الجامعية» ... إلخ. ولعلمكم، يا سيادة الوزير، ليس نشر هذا الكتاب الا صورة عمّا اعتبره إهدارا لجميع شروط العمل الأكاديمي واستخفافا بأبسط مقومات المؤسسة البحثية الجامعية في تسيير مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان. ولي بدل الدليل مئة عن حجم الخور في هذه المؤسسة، ولم أكلف نفسي يوما القيام بدور «المواطن الصالح» في التنبيه إلى هذا الأمر، لأني، اعتبر، ببساطة، أن شروط الإصلاح غير متوفّرة في هذه المؤسسة. أما وقد أنجزت التقرير بتكليف رسمي من رئيسي في العمل وصرفت فيه من الجهد والوقت على حساب التزاماتي البحثية والتأطيرية، فمن حقي الاصرار على أن يتمّ التعامل مع هذا التقرير بما يجب التعامل به في مثل هذه الحالات، أي إما بتسفيه محتوياته وإبطال نتائجه عن طريق تقرير علمي مضاد (وأنا واثق تمام الوثوق مما كتبت وأن مسألة الانتحال على مقتضى الأمر المذكور ثابتة لا لبس فيها)، وإما بتطبيق القانون بحذافره على الكتاب وصاحبه الذي ترقّى به إلى درجة أستاذ تعليم عال ومحاسبة من كان وراء نشر هذا الكتاب المهزلة دون تحكيم علمي رصين. فمن غير المعقول أن يقع تكليفي بعمل تطلّب منّي أن أقرأ ما يقارب الثمانمائة صفحة (متن الكتاب مدار التحكيم وكتاب آخر على صلة به للمؤلف نفسه)، هي من أردأ وأسوأ ما يمكن أن يجبر الباحث على قراءته، وأن أقضي ساعات طوال في مراجعة الكثير من المواقع الإلكترونية وتدقيق الكثير من المسائل وأن أصوغ تقريرا في عشرين صفحة مدعّما بما يلزم من شواهد موثّقة، ثمّ يرمى بهذا التقرير في سلة المهملات. وأنا اليوم أتساءل ما الذي دفع رئيس جامعة الزيتونة إلى طلب «تحكيم» كتاب قد تمّ نشره إذا لم تكن له نية اتخاذ التدابير اللازمة وتدارك خطأ نشره من قبل إدارة المركز؟ في الحقيقة لا أرى اللحظة إجابة معقولة، ولا أريد ان أدخل في متاهات التخمين أو التأويل. كل ما أعرفه أنه من غير المعقول أن يكلّف جامعي بعمل يبذل فيه جهدا ويصرف فيه وقتا ويسعى إلى إنجازه بأقصى ما يمكنه من الجدّية والإتقان، ثم يكون مصير هذا العمل الإهمال، مما يفتح باب التأويلات والتخمينات بشأن الدوافع التي تقف وراء تكليفي بهذا العمل. لهذا أنا مصرّ على أن لا تمرّ هذه الحادثة مرور الكرام وأن يتمّ التعامل مع تقريري بمقتضى الأعراف والقوانين الجامعية. أنا أدعوكم، سيدي الوزير، بصفتكم المسؤول الأول عن حسن سير المرفق الجامعي، التدخل من أجل أن يتحقّق هذا الأمر. والفت عنايتكم أني احتفظ لنفسي باستخدام جميع الوسائل الممكنة والمشروعة من أجل بلوغ هذه الغاية إذا فضلت وزارتكم تجاهل هذه الرسالة المفتوحة. سهيل الحبيّب باحث/أستاذ تعليم عال بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان