في جانفي1982، «انتهز» القذافي فرصة وجود بورقيبة بالولايات المتحدة ليصل فجأة إلى صفاقس عن طريق البر أين كان في استقباله كل من عبد الرحمن التليلي الرئيس المدير العام لديوان الزيت، ومهذب الرويسي والي تونس، وادريس ذيبة بتكليف من وسيلة بورقيبة. استقبلت وسيلة بورقيبة القذافي بكل لياقة وأكدت له أن احترام سيادة تونس وليبيا هو الشرط الأساسي لتحقيق تعاون تعود فائدته على الجميع ، لكنها أعلمته بأن بورقيبة ليس مستعدا لاستقباله طالما لم يقم بارجاع «وثيقة الوحدة» الحاملة لإمضائه. فأخبرها القذافي بأن طائرة ستأتي بها حالا ... وبأنه سيسلمها للرئيس فيما بعد...لكن الطائرة التي وعد القذافي بقدومها لم تأت وجاء بدلا منها القذافي في زيارة ثانية مفاجئة في فيفري 1982، وعند سؤاله عن الوثيقة كان القذافي يتظاهر مرة اخرى بأنه نسيها بطرابلس، لكن الوزير الأوّل حينها محمد مزالي أبلغه بأنه لن يكون «مرحّبا به» من قبل بورقيبة إلا بعد تمكينه من الوثيقة، لكنه وعد مجدّدا بأن طائرة ستأتي بها حالا. بناء على هذا الوعد استقبل بورقيبة القذافي في قاعة قصر قرطاج البيضاء لكن اللقاء كان «عاصفا» هذه المرّة. يقول الوزير الأوّل الأسبق محمد مزالي في شهادته: «كنت الشاهد الوحيد لأن الوفدين التونسي والليبي بقيا في قاعة القصر الرئاسي الكبيرة. وما كاد الرئيسان يجلسان حتى صاح بورقيبة قائلا : «رجّعلي وثيقة جربة»! فأجابه القذافي: «ليست عندي الآن وهي ليست إلا مجرد ورقة»... أضاف بورقيبة غاضبا: «أنا رجل جدّي ولا أحبّ التلاعب، أعطني الورقة وإلا عد من حيث جئت». حاول القذافي تبرير الموقف ولكن الغضب أخذ من بورقيبة مأخذا كبيرا وقرّب يده من خد ضيفه وكاد يصفعه. وببرودة دم مسك القذافي يد بورقيبة ووضعها على ركبته من جديد ثم التفت إلى محمد مزالي قائلا: «الأخ محمد ... هل بامكانك أن تنادي الخويلدي الحميدي أن يأتي بمحفظة الوثائق؟ وكان الحميدي حينها جالسا في القاعة الكبرى يتبادل الحديث مع وسيلة بورقيبة وادريس قيقة والباجي قايد السبسي. فجاء مسرعا إلى القاعة البيضاء وسلّم محفظة الوثائق إلى القذافي الذي فتحها وأخرج منها الوثيقة الشهيرة وسلّمها بدوره الى بورقيبة. يقول مزالي: «ظهر بورقيبة وكأنه رجع له هدوء أعصابه . واعتقد أن «ضعفه» في جربة ... لن يكون بعد اليوم إلا مجرد ذكرى مرة .. وسلمني الورقة كما كان يسميها وانتهى في جو هادئ وطلبت مني وسيلة بورقيبة تسليم الوثيقة لوضعها كما قالت في خزينة الرئاسة .. فسلمتها إليها ولكن لا أعرف أبدا مصيرها. وبالرغم من المساعي والتطمينات التي ما فتئت السلطات الليبية تبعث بها الى الدولة التونسية فإن المخابرات الليبية لم تتوقف عن محاولتها لارباك الأوضاع في تونس و»خلخلة» أركان النظام «انتقاما» لتراجع بورقيبة عن اتفاق جربة.. ففي أوت 1982، أراد القذافي لقاء بورقيبة من أجل اقتراح عقد قمة عربية طارئة بتونس التي كانت آنذاك مقرا لجامعة الدول العربية، وذلك للرد على اجتياح لبنان في جوان من ذلك العام بقيادة شارون وزير الحرب في ذاك الوقت، لكن بورقيبة رفض اقتراح القذافي ووعد في مقابل ذلك بتنظيم اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الهيلتون. وقبل انعقاد هذا الاجتماع بساعة عثرت مصالح الأمن في مرحاض بهذا النزل على حقيبة مليئة بالمتفجرات. يقول محمد مزالي ان هذه الحقيبة وضعها هناك عميل ليبي مهنته رسم الكاريكاتير، أقر لاحقا بأنه فعل ذلك بإيعاز من دبلوماسي يعمل بالسفارة الليبية فصدر ضدّه حكم بالسجن وبعد سنتين أخلي سبيله في اطار مساعي تنقية الأجواء بين البلدين ولإتاحة الفرصة للجنة الليبية التونسية المختلطة. ويضيف «لأن القذافي اغتاظ من كفاءة ونجاح مصالح الأمن التونسية في احباط هذا المخطط فإنه اتهم في السنة نفسها أمد بن نور كاتب الدولة للأمن الوطني بأنه «عميل» لأمريكا. لكن مخططات القذافي تجاه تونس لم تقف عند هذا الحد ففي السنة نفسها، ألقي القبض على مجموعة من التونسيين انتدبتهم المصالح الليبية قبيل الزيارة التي كان يزمع بورقيبة القيام بها الى قفصة، إذ أن عميلا من عملاء ليبيا المعروفين اسمه «ارحيله» أعاد الكرّة. واتصل بعدد من التونسيين، اصيلي الجنوب وحاول جلبهم إلى صفه، واختار أحدهم «طاهر د»وهو دستوري ومن قدماء مناضلي اتحاد الطلبة التونسيين، أن يتعاون مع مصالح أمن بلاده موهما من انتدبه أنه أصبح من عملائه. يتذكّر مزالي تلك الواقعة قائلا» كنا على علم بالاتصالات التي كانت تتم في بن قردان أو قرى أخرى حدودية أو بنزل ميرياديان بباب مايو بباريس بينهم وبين «ارحيله» الذي توصل إلى إغراء ضابط صغير تونسي أو على الأقل ظن ذلك، ولكن هذا الضابط كان يلعب دورا مزدوجا بتعليمات من مخابراتنا العسكرية وكان يعلم رؤساءه بما كان يخطّط له الليبيون وما يسلمونه له من أموال وسلاح. وفي كل مرة يخبرني وزير الدفاع صلاح الدين بالي بمناورات المخابرات الليبية التي كانت على نقيض تام من الخطب الرسمية التي كان يصرح بها قادتهم السياسيون. وكان ذلك صورة من الخطاب الليبي المزدوج في أجل معانيه». فإلى حلقة قادمة