نحن الآن في منتصف السبعينيات أو أقل قليلا... كانت تلك المرحلة مزدحمة بالأحداث العاصفة والأنواء والتقلبات ؛ لكن من أعنف تلك العواصف كانت تلك التي تتعلق باتفاقية الوحدة بين البلدين عام 1974. وكان حلم "الوحدة العربية" حينها يداعب مخيلة القذافي... وهو يستشعر المخاطر التي تهدد بلاده مع مصر عقب قرارات وقف إطلاق النار بين القاهرة وتل أبيب، بعد حرب 1973 ، بالإضافة إلى تعرض التحالف الثلاثي الوليد بين مصر وليبيا وسوريا، للتصدع... كانت رغبة الوحدة أشبه بمرض العصاب الذهني بالنسبة الى القذافي. فهو ينام ويصحو باحثا عن أي محاولة لتحقيق الوحدة ومع أي بلد المهم أن يكون قد أنجز شيئا ودوما كان يستحضر مقولة عبد الناصر له: أرى فيك شبابي. ويفسرها بأنها استمرار لحلم الوحدة الذي توفي عبد الناصر دون تحقيقه. بدأ القذافي مشروعه الوحدوي نحو مصر... بلد عبد الناصر... وقد اضطر السادات الى قبول الوحدة معه في اطار كونفيدرالي لأنه كان في أشد الحاجة الى الدعم المالي الا أن السادات كان من أنصار المدرسة الواقعية في السياسة لذا سار على خطى عبد الناصر بممحاة "استيكة" كما قال عنه معارضوه... فقد أيقن أن الوحدة العربية مجرد حلم لا يمكن تحقيقه والأفضل أن تبحث كل دولة عن مصالحها...لذا رفض فكرة القذافي بالاندماج بين البلدين فتحول الخلاف الى خلاف شخصي بين الرجلين. بعد فشل الوحدة مع مصر اختار القذافي هذه المرة أن يمتطي "قطار الوحدة "و يتجه به صوب تونس ليعرض مشروعه الوحدوي على الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في زيارة كانت مفاجئة ولم يعلن عنها مسبقا. كانت مثل هذه الزيارات المفاجئة من خصال في القذافي. فالرجل الذي كان عادة ما يأتي على حين غرّة، زار قبل ذلك تونس عن طريق البر في زيارة مماثلة استقبله خلالها بورقيبة في حمام الأنف وألقى خلالها خطابا في قاعة البالماريوم تحدث فيه طويلا عن الوحدة العربية. كان بورقيبة في تلك اللحظة- مثلما يقول رئيس الوزراء الراحل محمد مزالي في كتابه "مغامرات الوحدة القذافية في تونس والمغرب العربي"-ينصت إلى الخطاب في غرفة نومه بواسطة الراديو فامتطى أول سيارة وجدها في قصر قرطاج ودخل البالماريوم فجأة وافتك الميكروفون من يد الزعيم الليبي قائلا: إنه اكتسب شرعيته لا بالمدرعات والانقلابات بل استمدها من الشعب. وهو إن تكلم فباسم وطنه تونس لا باسم الأمة العربية. وأضاف : قبل كل شيء .. العرب لم يكونوا موحدين أبدا. إذ الوحدة تحتاج إلى قرون لتتحقق إذا سلكنا الطريق الصحيح. ونصح القذافي بالبدء أولا بتوحيد مختلف مقاطعات بلاده كطرابلس وسرت وفزان وأهاب به ألا ينفخ أوداجه متشدقا ومتحديا لأنه في إمكانها أن تعطيه طريحة ! يقول مزالي: "كنت أنظر إلى القذافي وقد ملك من نفسه ما ملك... واكتفى بابتسامة متشنجة وكاد الأمر أن يؤول إلى فساد العلاقات بين البلدين ولكن ذلك لم يفت في عزم محمد المصمودي وزير الشؤون الخارجية. فاغتنم فرصة غياب الوزير الأول الهادي نويرة الذي كان في زيارة رسمية الى إيران وكذلك وسيلة بورقيبة التي كانت في ضيافة سوريا والكويت لينظم يوم السبت 12 يناير 1974 قمة بين بورقيبة والقذافي بحومة السوق بجزيرة جربة.. كان قرار بورقيبة حينها أن يحصل اللقاء بينه وبين القذافي في مدينة جربة، في صبيحة يوم ذلك اليوم. لكن قبل يوم واحد من موعد اللقاء، اتصل محمود الغول، والي مدنين، بوزير الداخلية آنذاك الطاهر بلخوجة ليعلمه أن القذافي حل ركبه، من دون سابق اعلام، إلى رأس جدير...هناك استقبله محمد الفيتوري وزير المالية التونسي الذي كان متواجدا بالصدفة في بن قردان. فرافقه إلى مقر إقامته في فندق "أوليس"، في جربة. وفي صباح اليوم التالي، وصل بورقيبة إلى مطار جربة، فوجد القذافي في انتظاره مرتدياً زيه العسكري الأبيض. وانتقل الزعيمان فوراً إلى النزل، وهناك عقدا اجتماعا لمدة حوالي ساعة على انفراد قبل أن يخرجا مبتسمين بينما تقدّم القذافي نحو الحاضرين، ثم قال: "مبروك... لقد أنجزنا الوحدة. ومنذ هذه اللحظة صارت تونس وليبيا دولة واحدة، ورئيسنا جميعا هو بورقيبة". يقول محمد مزالي في شهادته: كان برفقة بورقيبة آنذاك محمد المصمودي والحبيب الشطي مدير ديوانه، ومحمد الصياح مدير الحزب الحاكم، والطاهر بالخوجة وزير الداخلية، وحسان بالخوجة مدير البنك الفلاحي ووزير المالية الذي وجد صدفة في الجهة بمناسبة تفقد الإدارات الجهوية الراجعة النظر إليه، وإثر محادثة على حدة بين الرئيسين دامت أقل من ساعة، أعلن عن قيام وحدة اندماجية بين البلدين وتكوين حكومة موحدة فأصبح بورقيبة بذلك رئيس دولة جديدة اسمها "الجمهورية العربية الإسلامية". كان وقع الخبر مفاجئا لوزراء بورقيبة الذين ظلوا ينظرون إلى رئيسهم مستغربين. فهم يعلمون جيدا أنّ الزعيم الراحل شديد النفور من كل حديث عن الوحدة العربية. فما الذي جعله يوافق هذه المرة على الوحدة مع ليبيا بهذه السرعة؟...وفي الأثناء كان بورقيبة يرفع رأسه عالياً، ويمطّط شفتيه، وينظر إلى من حوله بتباه . ثم قدّم القذافي إلى وزير الخارجية آنذاك محمد المصمودي ورقة ليقرأها على الحاضرين. جاء في هذه الورقة: "وقّع الزعيم الحبيب بورقيبة مع العقيد معمر القذافي إعلان الوحدة بين القطرين العربيين التونسي والليبي، على أن يكون البلدان جمهورية واحدة تسمى الجمهورية العربية الإسلامية، ذات دستور واحد، وعلم واحد، ورئيس واحد، وجيش واحد، وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة. وينظم استفتاء شعبي لقيام الوحدة". اقترح القذافي أن يتم الاستفتاء على الوحدة في 25 جانفي 1974. لكن محمد الصيّاح، مدير الحزب الدستوري الحاكم، اقترح موعداً آخر هوذكرى 18 جانفي 1952. ففي هذا اليوم، يحتفل التونسيون ب"عيد الثورة" التي اندلعت في البلاد بعد أن نُفي بورقيبة إلى مدينة طبرقة. لكن بورقيبة حدّد في الأخير يوم 18 جانفي 1974 موعداً للاستفتاء، فوافق القذافي قبل أن يخرج من جيبه ورقة جديدة، ويقدّمها إلى بورقيبة. كانت الورقة تضم أسماء 16 وزيراً تونسيا، و14 وزيراً ليبيا رشّحهم القذافي ليؤلّفوا "حكومة الوحدة". وبرز اسم بورقيبة في رأس الورقة، باعتباره رئيس الجمهورية الوليدة. وجاء القذافي في المقام الثاني باعتباره نائب بورقيبة، ووزير "دولة الوحدة". بينما تم تعيين الهادي نويرة الوزير الأول التونسي آنذاك ليكون النائب الثاني لبورقيبة. فيما منحت رئاسة حكومة الوحدة الى عبد السلام جلود نائب القذافي في مجلس قيادة الثورة الليبية. وفي المقابل اختير محمد المصمودي وزيراً للخارجية، والطاهر بلخوجة وزيراً للدفاع، والخويلدي الحميدي (وزير الداخلية الليبي) وزيراً لداخلية الدولة الجديدة. وتحفّظ بورقيبة، في بادئ الأمر، على اسم الخويلدي، لكنه سرعان ما قبل به. وكان من بين الأسماء الذين اختارهم القذافي في الحكومة الجديدة، اسم زين العابدين بن علي الذي تم تكليفه آنذاك بمسؤولية مدير الأمن العسكري في جيش "دولة الوحدة"....لكن هل تقدر "دولة الوحدة" هذه على الصمود ؟ كان هذا السؤال يفرض نفسه بإلحاح على بورقيبة نفسه في ذلك اليوم وهو يلاحظ على ملامح وزرائه علامات الاستغراب...وفي الحلقة القادمة تفاصيل وفصول جديدة. والى حلقة قادمة