صدرت مؤخرا النسخة الألمانية لكتاب جون بيركينز بعنوان «اعترافات قاتل اقتصادي»... يفضح فيه كاتبه بالوقائع... وبالدليل القاطع أساليب الهيمنة السياسية والاقتصادية الامريكية... «كيف تتفنن المؤسسات النقدية في نهب ثروات الدول النامية وفي شفط خيراتها؟. من هم «السفاحون الاقتصاديون»؟... من يقف وراءهم... وما هي أهدافهم؟... هي جملة من أسئلة يطرحها بيركينز ويجيب عنها بنفسه في كتابه هذا الذي يشكل صفحات من الاعترافات المدوية والمفجعة من أحد أولئك «اللصوص المحترفين» الذين يتنقلون عبر العالم في رحلات فارهة ويتقاضون كما يقول هو أجورا فلكية لغرض واحد... هو سرقة ملايين الدولارات من الدول الفقيرة... والمؤلف جون بيركينز هو واحد من أشهر الخبراء الاقتصاديين... وقد أمضى عمره في خدمة نظام الاغتيال الاقتصادي للشعوب المستضعفة حيث جندته وكالة المخابرات الامريكية (سي أي إيه) سرا وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية فزار أندونيسيا وكولومبيا وبنما والاكوادور والسعودية وايران وغيرها من الدول التي تشكل أهمية في المنظور الاستراتيجي الامريكي... خدمة المصالح الامريكية وكانت مهمة هذا الكاتب تتمثل تحديدا في تطبيق السياسات التي تخدم مصالح تحالف أمريكي يضم الحكومات والمصارف والشركات الكبرى... وفي الوقت نفسه كان العمل ينص على تسكين أعراض وآثار الفقر باجراءات ظاهرية خادعة تم هجر وظيفته هذه بعد ان شعر بالخزي وتأنيب الضمير ازاء أعماله تجاه الشعوب المستهدفة... وكان كل مرة يهم بالشروع في كتابة مذكراته يتلقى اما تهديدات أو اغراءات مالية هائلة تمنعه من المضي في مشروعه ولكن بعد غزو العراق من طرف القوات الامريكية وأتباعها... وهذا ما فعله عام 2005... وأهم ما تضمنه الكتاب أن القوة الامريكية الاعظم عبر مخابراتها كانت كلها رصدت مصدر ارتزاق هام ببلد ما الا ووجهت فرقها المختصة تحت مختلف المسميات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية للاستيلاء على هذا المصدر واستغلاله لصالح الشركات الامريكية الكبرى... والخطة الامريكية هذه كما جاء في الكتاب يقع تنفيذها عبر ثلاثة محاور بالتدريج فالمحور الاول يقتصر على تقديم الاستشارة الاجتماعية والاقتصادية حول تركيز البنى التحتية للبلد المستهدف وذلك بإعداد الدراسات المعمقة حول حجم وكلفة هذه البنى وايهام السلط المعنية بالفوائد الجمة التي قد يدرها تركيز هذه البنى على البلاد والارتفاع الهائل بالدخل القومي الخام الذي سوف ينجر عنها... ويتضمن هذا المحور اقناع الفئة الحاكمة في البلد المعني بأن أمريكا سوف تضمن لها الاستمرار في السلطة والرفاه... وامكانات التعليم والتداوي للمنتسبين لها بأمريكا ومختلف دول الغرب وتقيها ويلات الانتفاضات الشعبية وحتى تقبل بالخطط التنموية المقترحة التي من جملة أهدافها الأساسية تعميق الهوة تدريجيا بين الحكام وشعوبهم لضمان استدامة سيطرة أمريكا على كليهما بحيث يصبح عنصر افساد الحكام هو الوسيلة الاساسية بأيدي القائمين على تنفيذ هذا المشروع من خبراء وسياسيين وديبلوماسيين وجواسيس وتعتمد في ذلك على مد كل طرف من هؤلاء بالذخيرة الحية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا حتى تبقي على تناحرهما المستمر واضعافهما واضعاف مقدرات البلد الدفاعية واستهداف مناعته حتى يبقى تحت السيطرة الامريكية... ويضيف قائلا ان سجل تقدم في هذا الاتجاه فإن أصحاب المشروع يكتفون بتائجه ويواصلون سعيهم الى تمتين ربط مصالح هذه البلدان بالمصالح الامريكية وان خابوا في مسعاهم ورأوا أن النظام القائم في البلاد المستهدف غير قابل للافساد وله قيم سياسية وعقائدية وأخلاقية تجعله يحمل مشروعا وطموحات لتنمية وتقدم شعبه فإنهم يلجؤون الى تحريك المحور الثاني الذي يمثله الجهاز التنفيذي لما يسمى بالعائلة الاستخباراتية (famille de renseignement) والذي يقضي بإيفاد جواسيس وقتلة لاختراق أمن ودفاع الانظمة المستهدفة واثارة القلاقل والانقلابات أو القيام بعمليات اغتيال مباشرة ضد من يرفض الانصياع للمصالح الامريكية مثلما جرى في غواتيمالا وبنما وكولومبيا واحلال محلهم متطوّعين عادة ما يكون أغلبهم من العسكر الذين لا يمانعون في مجاراة خطط استيلاء أمريكا على مقدّرات بلدانهم ولكن حتى في هذه الحالات قد لا تجد أمريكا فرصة لتمرير مشاريعها في هذا الاتجاه. وفي هذه الحالة يقول المؤلف تلجأ الولايات المتحد الى المحور الثالث والذي يتمثل في شيطنة البلدان المستهدفة وحكامها واضطهادها على مختلف الجهات واقناع الرأي العام الامريكي والغربي عموما بمعاداتها للغرب ثم الانقضاض عليها بالغزو العسكري المباشر... وفي هذا الصدد يعطي صاحب الكتاب مثال العراق الذي استعصى رئيسه أنذاك صدام حسين على الافساد لما كانت له من طموحات وطنية وقومية وعجز المخابرات الامريكية عن اختراق أمن العراق وضرب جبهته الداخلية التي وصفها صاحب الكتاب بالمفرطة في النجاعة والاخلاص لوطنها مما دفع بأصحاب القرار على أعلى مستوى الى إعداد الخطط العسكرية وتحريك الحلفاء، الظرفيين منهم والدائمين للقيام بعدوانهم على العراق وغزوه وتفكيك مؤسساته وحل جيشه واهدار ثرواته وتنصيب حكام موالين لامريكا بشكل مطلق. ومما يسهّل تنفيذ هذه الخطط الارتباط الوثيق، كما يقول صاحب الكتاب، بين رأس السلطة في أمريكا وكبريات الشركات الاقتصادية الامريكية والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي يقول الكاتب انها بعثت إبان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية من طرف القوى الغربية لابتزاز بقية دول العالم ونهب ثرواتها وتطويع أنظمتها الاقتصادية للنظام الرأسمالي الليبرالي الغربي وتحويل شعوبها الى مجموعات فقيرة لا تستطيع في سعيها الى كسب لقمة العيش الا خدمة المصالح الامريكيةوالغربية والانصياع لما تمليه هذه المصالح من خطط وتحركات. ... وجوه عدّة... لمشروع واحد ويذكر الكاتب في هذا الصدد بانتقال كبار السياسيين في أمريكا بين السلطة السياسية التنفيذية ورئاسة الهيئات التنفيذية لكبرى هذه الشركات... ويخصّ الكاتب بالذكر هنا تحديدا نائب رئيس الجمهورية السابق ديك تشيني الذي تحوّل من وزارة الدفاع في ظل حكومة بوش الأب الى رئاسة أكبر شركة تجهيز أمريكية (هاليبرتون) قبل أن يتولى نيابة رئيس الجمهورية طوال ولايتي بوش الابن حيث كان على اختلاف مواقعه دوما في خدمة هذا العملاق الاقتصادي ومحيطه المالي... ويشير بيركنز في كتابه أيضا الى شخصيات سياسية واقتصادية ومالية كثيرة لكنه يركّز على «جورج شولتز» بوصفه القاتل الاقتصادي القيادي و«رئيس مجلس المنظومة من الشركات التي تعمل في مجال النفط والغاز وأحد المروّجين لمبدإ التجارة الحرة الراديكالية. وسبق له أن شغل منصب وزير العمل ورئيس مكتب الادارة والميزانية ووزير المال في ادارة الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون وهو من قام شخصيا بالغاء نظام «بريتون وودز» الاقتصادي الذي وضعه فرانكلين روزفلت وشغل كذلك منصب وزير للخارجية الامريكي لعدّة سنوات. والكتاب يكشف خفايا وأسرارا خطيرة حول مهام عديدة قام بها صاحبه بيركنز في بلدان مختلفة سوف نواصل عرضها تباعا بشكل تفصيلي وكشف الآلية الخفية للسيطرة الامبريالية الاستعمارية من رصد دقيق لأشد الاحداث مأساوية في التاريخ الحديث مثل أحداث سقوط شاه إيران وغزو بنما والعراق وتفجيرات 11 سبتمبر 2001. غدا باذن ا& حلقة جديدة يفضح فيها الكاتب جون بيركينز المستور حول خفايا سقوط أو إسقاط شاه إيران. اعداد: النوري الصل تقديم: الاستاذ عبد الله العبيدي