[email protected] (1) على إثر العدوان البربري الفرجوي المذهل ضد سفينة الحرية أمام أعين العالم , أفقدت دولة إسرائيل جميع اليهود المنتشرين على وجه الأرض مصداقيتهم وإنسانيتهم وثراءهم الأخلاقي والرّوحي. بل إنها نزعت عن الأحرار منهم كل عبارات التنديد والاستنكار والاعتذار, وحتى ما تبقى من الصور الرمزية التي انطبعت حديثا في ذاكرة يهود العالم ... لقد نسفت إسرائيل حتىّ في دائرة « التاريخ الصهيوني» والمرتبط أصلا بتأسّسها ككيان آخر أيقوناتها . فصورة سفينة « أوكسدوس» Exodus التي استعارت إسمها من سفر «الخروج» التوراتي و التي حملت ما يقارب الخمسة آلاف يهودي أوروبي عام 1947 لإنقاضهم من « الكارثة « أو «الشواه» Shoah أو ما بات يعرف بالمحرقة النازية , لزرعهم على ساحل فلسطين تمهيدا لمسيرة العصابات الصهيونية وعلى رأسها عصابة «الهاغانا» Haganah في تنفيذ مشروعها التطهيري ضد عرب فلسطين ... تلك الصورة سيستذكرها الإسرائيليون مقترنة بصورة سفينة «الحرية». (2) تلك الصورة سيستذكرها الإسرائيليون مقترنة بصورة سفينة «الحرية», كما سترتبط محرقة الهولوكوست بمحرقة الشعب الفلسطيني وتتحول الأساطير اليهودية التوراتية مصحوبة بقرائنها في ذاكرة اليهود – يهود إسرائيل - أنفسهم بالتاريخ المتوهج للفلسطينيين , ولا تاريخ لإسرائيل بعد اليوم غير تاريخ الفلسطيني في صورة القرين الموثوق Alter égo فكلما كان الإسرائيلي تحت الشمس كان ظله ضحية فلسطينية , ولعل هذه الصورة الكافكاوية المرعبة جزء من رصيد الفحش الذي راكمته إسرائيل وجزء من تلك العدمية الملحمية التي تجعل من التوبة مشروطة بالقصاص و تجعل من الهيكل السليماني هيكلا عظميا للهدهد في سفر محمود درويش . هكذا تعبث إسرائيل في ما يشبه بالأسلوب العدمي الفاجر بأسس تاريخها القريب , حين تطلق ضباعها الجائعة على سفينة الحرية فتقتل بالرصاص الحي مجموعة من الضمائر الإنسانية التي قررت تقديم الدواء والطعام لشعب محاصر في أضيق محمية بشرية في التاريخ المعاصر ... و السخرية العدمية أن أحفاد «الهاغانا» القادمين على متن سفينة «الأكسدوس» هم من يهاجمون سفينة الحرية . (3) وفي اللحظة التي تنفلت فيها الكلمات للتعبير عن الغضب أمام هذه المجزرة البحرية, يجد الصهاينة الوقت الكافي لتلفيق الأكاذيب حول الحادثة, تسويقا للوصية الحادية عشرة التي أضافها أحفاد عصابات الهاغانا إلى التوراة: «لا تعتذر عما فعلت», هكذا رددت الصحف العبرية بعد هذه الفضيحة المدوية, مستعيرة هذه الوصية من الشاعر محمود درويش إيغالا في الفحش . (4) «لا تعتذر عما فعلت « الوصية الجديدة التي تلقفها أصدقاء إسرائيل ليرددوا الشعار المبتذل حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها, في حين رددت الإنتلجانسيا عن أصدقائها الموغلين في الذنب في إسداء النصيحة للكيان الصهيوني في ترميم صورته لدى الرأي العام العالمي وعلى رأسهم بارنر هنري ليفي Bernard Henri Lévy الذي سارع يوم الحادثة لإلقاء محاضرة في السفارة الإسرائيلية في باريس يؤكد فيها على أن إسرائيل بدأت تخسر معركة الصور وإن الأمر مجرد لعبة إستشهارية عنده وبروباغندا سياحية لدولة مسالمة, دون الوقوف على المأساة الإنسانية التي يعيشها فلسطينيوغزة منذ الحصار الذي بدأ منذ ثلاثة أعوام أعقبته عملية الرصاص المذاب و الفسفور الأبيض والذي راح ضحيته أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني . في حين يرى دافيد غروسمان David Grossman - و هو الإسرائيلي في معسكر السلام داخل إسرائيل و الذي فقد إبنه المنخرط في الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الأخيرة - أن العملية برمتها هي مجرد وقوع إسرائيل في فخ نصب لها و على إسرائيل أن لا تعتذر و هي مدافعة عن نفسها . (5) «لا تعتذر عما فعلت», الوصية التوراتية الجديدة التي يستلهمها «شعب الله المختار» (إسرائيل), ويراها في التأويل : لا تشعر بالذنب, أو ليكن شعورك بالذنب إيغالا في ارتكاب الذنوب وعلى شعب الله المحتار (العرب ) أن يقدم شكواه لشعب الله المحتال (الأمريكان ) ... و اللعبة منتهية « Game is over ». تحية لروح محمود درويش ولروح الباحث و الكاتب الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري .