حقيبة مشحونة بما يزيد عن الحاجة، شراشف جديدة وبعض أوان للطبخ وموقد كهربائي وذاك الدبّ القطني الصغير... ثم كيس بلاستيكي به غطاء صوفي جديد... تقريبا نفس التفاصيل ترافق الفتيات الصغيرات المقبلات على رحلة الدراسة الجامعية، تجدهن في صف طويل امام مكتب مديرة المبيت مصحوبات بآباء فخورين وأمهات متوجسات من فراق بناتهن الصغيرات اللواتي يتخمنهن بالوصايا والتخذيرات: «كلي جيدا، لا تتأخري خارج غرفتك، دورسك أولا...» وغير هذا من الوصايا التي لم يبد أن «سنية» هذه الفتاة الصغيرة التي ترزح تحت ثقل حقيبة ضخمة تسمعها وسط صخبها الداخلي وصخب المحيط سألتها عن احساسها خلال هذا اليوم الاول فقالت انها لم تجرّب «المبيت» بعد، هناك طالبات سبقنها الى السكن الجامعي لأن كلياتهن قد بدأت الدراسة منذ ايام... بحثت عن واحدة فوجدتها تنزل من حافلة تمر امام المبيت، وقد انطلقت في الحديث وكأنها كانت تنتظر سؤالنا: أنا أصيلة مدينة منزل بورقيبة وهذه سنتي الاولى في السكن الجامعي بصراحة الامر صعب جدا، وانا أفكر احيانا ان أغادر غرفتي في المبيت لأقطن في منزل خالتي ولكني أتراجع عندما أفكر في ازعاج الآخرين، الامر صعب جدا، لقد قضيت ليالي طويلة وحيدة في هذه الغرفة قبل ان تأتي شريكتي في السكن، كما اني لم أجد ما آكل والمطعم الجامعي لم يفتح بعد، ثم أني اشتقت الى أمي وأختي والى تلك الأمسيات في بيتنا خاصة عندما كنا في شهر الصيام، لقد كنت طيلة الوقت متحفزة لأني كنت أحمل كل مصروفي وأموالي في حقيبتي كما ان الناس في مدينتي قد حذروني من الزحام في العاصمة لذلك كنت لا أرد على هاتفي الجوال مطلقا خارج غرفتي وقد ركبت حافلة غير حافلتي حملتني الى مدينة باردو قرب منوبة وليس الى جهة المبيت فأصبت بحالة من الهلع الشديد وعدت للمبيت في سيارة تاكسي، بصراحة تقول هذه الفتاة التي لم تترك لنا حتى فرصة سؤالها عن اسمها ولكننا قاطعناها فقالت اسمي هاجر وعادت لما كانت فيه بصراحة السكن الجامعي تجربة قاسية لقد بكيت مرتين خلال الاسبوع الاول أرجو أن أتعوّد على هذه الحال والا فاني سأغادر المبيت... تركت هاجر بحثا عن طالبة اخرى أسألها عن انطباعها عن المبيت وكيف وجدته في سنتها الاولى... وقد هجمت عليّ ذكريات محبوسة فاقت الست عشرة سنة عندما غادرت قريتي الصغيرة مع والدي وأخي في سيارته نحو المبيت الجامعي، كنت أتحرّق شوقا لخوض هذه التجربة المتميزة التي كثيرا ما سمعنا تفاصيلها من اخوة كبار وأقارب وقريبات. المبيت فرصة لصقل الشخصية، المبيت تجربة رائدة للاحتكاك بالاخرين والدربة على التعايش في المبيت تقام الكثير من حلقات النقاش وتدارس الكتب في المبيت تعلمنا الاناقة... في المبيت تعلمنا الاعتماد على أنفسنا وتحمل الشوق والافلاس... انا شخصيا أذكر اني مررت بمواقف طريفة جدا خاصة خلال سنتي الاولى في المبيت كمحاولة النشل التي تعرضت لها في الحافلة رقم 14 أو ضياعي في العاصمة الكبيرة وعدم معرفتي للاتجاه لولا ارتفاع نزل افريكا، الذي بقيت أسير في اتجاهه لما فقدت أمل معرفة طريق العودة حتى بلغته بعد ان تورمت قدماي من ذاك الحذاء الجديد... لطيفة طالبة من مجاز الباب تدرس بضاحية قرطاج، تسكن مبيتا وسط العاصمة قالت انها قدمت في يومها الاول مصحوبة بوالدها وقد انخرطت في البكاء مرتين لما وجدت نفسها وحيدة وأرادت ان تعود الى أهلها ولكن لما قدمت شريكتها في الغرفة وهي طالبة جديدة من جربة قضتا السهرة في الحديث عن عادات كل من مدينتيهما... في الاسبوع الاول تقول لطيفة كنت أغادر المبيت الى منزل أختي في رادس كل يومين اما الان فقد بدأت أتعود... لقد جلبت معي اشياء كثيرة من بيتنا من بينها سطل كسكسي كامل لا اتصور اني سأجد فرصة طبخه واستهلاكه... من اجل معرفة المزيد عن احوال الطالبات الجديدات قصدنا مديرة المبيت الجامعي ابن خلدون السيدة رجاء مديوني التي استقبلتنا ببشاشة رغم كثرة مشاغلها في مثل هذا الوقت من السنة، وقالت ان ادارة المبيت تتحول الى اسرة للطالبات ترعاه وتحرص على مصلحته في مختلف الجوانب وخاصة حالات الطالبات الجديدات اللواتي نحاول ان نطمئنهن ونبث لديهن الراحة. فالمبيتات ليست فضاءات ايواء فقط بل هي فضاءات لمعاضدة المؤسسات التعليمية الجامعية ونحن نحرص على تنمية القدرات الثقافية والفنية لدى الطالبات عبر تشجيعهن على الانخراط في النوادي القارة كنادي الرياضة والرسم او عبر النوادي التي تختار الطالبات التكوّن فيها من خلال استمارة توزع عليهن وهذه السنة لدينا عدد من الطالبات يتقن العزف على آلات موسيقية لذلك كوّنا ناديًا للعزف، اضافة الى نواد اخرى متنوعة هدفها الترفية عن الطالب وصقل مواهبه ورعايتها من اجل دعم ثقته بنفسه والاحاطة به بالشكل الامثل وتعويده على الانفتاح على محيطه الواسع بمختلف مكوناته فالحياة فيها الطلبة والمسنون والاطفال وفاقدو السند وغيرها من المكونات التي نسعى الى ان يدرجها الطالب في دائرة وعيه بمحيطه الشاسع وعلى العموم طالباتنا هم بناتنا اللواتي نحرص على تربيتهن ونجاحهن لأنهن امانة لدينا. المبيت الجامعي هو محطة مهمة في حياة كل طالبة منه تتعلم الكثير وتستقي منه الدروس وفيه يشتد عودها وتتعلم تحمل مسؤولية ادارة حياتها بعيدا عن الاهل ورعايتهم، لذلك تظل هذه الفترة لما تنتهي فترة زخم للذكريات الجميلة والقاسية احيانا في ذهن كل من مرت بتجربة المبيت ويبقى هناك اجماع انها تجربة ثرية نتعلم منها الكثير.