وقع بين يديّ مؤخّرا نصّان مثيران للجدل، أحدهما يمجّد العلمانية ويَحمل على الهويّة، والآخر يحمل على العلمانية ويُجلّ الهويّة، وكلاهما في المغالاة والأحادية ونكران الواقع والوقائع سواء. نصّ حوار أجرته الأسبوعية «مواطنون» مع د.رجاء بن سلامة تحت عنوان «العلمانية هي الأرضية الوحيدة التي تضمن المساواة والكرامة والحرية» ( ماي ) ونصّ مقال ردّ به د.أبو يعرب المرزوقي على من سمّاهم «بعض أدعياء العلمانية وأعداء الإسلام» ونشرته «القدس العربي» ( ماي ). ولقد سبق لي أن ناقشت الطرح الذي طرحته السيدة بن سلامة في خصوص الحرب اللبنانية والموقف من «حزب اللّه» والمقاومة، وخالفتها حين استخفّت بالمقاومة وأبطالها الذين خضدوا شوكة العدوانية الصهيونية، وبِقِيَم مثل التضحية والاستبسال، وحين لم ترَ في «حزب اللّه» سوى جماعة إرهابية أو ميليشيا دينية عاملة لحساب أطراف خارجية، وحين حدبت على قتلى صواريخ المقاومة من الإسرائيليين حدْبا يفوق حدبها على ضحايا القصف البرّي والبحري والجوّي الإسرائيلي من اللبنانيين أصحاب الحقّ. خالفتها ذلك واستنكرت موقفها من المثقفين والإعلاميين والأُناس عربا وأجانب الذين وقفوا ضدّ الجرائم الصهيونية وطالبوا بخروج المحتلّ من لبنان وفلسطين والعراق، وحيّوا المقاومة الوطنية وصمودها وقدرات قيادتها في إدارة معركة غير متكافئة. ومرّة أخرى تعود السيدة رجاء بن سلامة لتعزف العزف نفسه في هذه القضية وفي غيرها من القضايا التي تهمّ راهن المجتمعات العربية والإسلامية وخاصّة ما تعلّق بقضايا الحرية، والهويّة، والنهضة. ولم يخل كلامها من ردّ (ساخر) على الردود التي عقبت تصريحها الأوّل المنشور على موقع إلكتروني قبل أن تُعيد نشره بعض الصحف. و مرة أخرى أسجّل أن مدار الخلاف معها و مع المثقفين العازفين عزفها هو على قراءة المرحلة وطبيعتها و بالتالي على طبيعة الصراع الدائر، و التناقضات القائمة، وبالتالي على الموقف من المسألتين المطروحتين اليوم في جدول أعمال بلداننا ومجتمعاتنا: المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية. والرّأي عندي أنّ عديد المثقّفين العرب، وهم في المهبّ، تعذّر عليهم أن يروا وجه الحلّ حين ركبوا خطاب الوطنية والهويّة وأهملوا نداء الحرية والديمقراطية التي من شأنها تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الغزو، وإعطاء الهويّة مضمونا تقدّميّا قادرا على مواجهة المحو. وكذلك أخطأوا حين ركبوا خطاب الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحداثة، والعلمانية، بمعزل عن الهويّة الوطنية والقومية، وبمنأى عن الإرث الحضاري الخصوصي. ولقد قدّمت الأحداث الجارية في العراق وغير العراق مثالا ساطعا ودليلاً قاطعا جديدا على التوظيف الاستعماري الماكر لتلك الشعارات والمطالب المدنيّة المشروعة حين حملها الغزاة جوّا وفي شكل معلّبات وأتوا بها على الأخضر واليابس، ومن ضمن الأخضر وحدة العراق واستقلاله وعروبته وحمولته الرّمزية. ولقد كان هؤلاء ومازالوا يرومون فرض عالم على صورتهم، وحداثة ب «هويتهم» وعلمانية على قدر مصالحهم، وحرّية تفرّق ولا تجمع، وديمقراطية تفتح الباب للطائفية ومُحاصصاتها، ومُضارباتها، ومواجهاتها، ولتفتيت البلد وإبقائه تحت «رحمة» المخابرات المركزية والموساد، وإنهاء دوره في بناء النهضة العربية المنشودة. وقدّمت مشاريع التنمية الفاشلة والتحديث المزعوم في بلدان «العالم الثالث» التي ركبت موجة الخيار «الاشتراكي» أو التي نهجت نهج «الانفتاح» و «اللّبْرَلَة» أدلّة قاطعة أخرى عن مآل الاستخفاف بالهويّة القوميّة والخصوصية الحضاريّة، وأفضى ذلك كما هو مشهود إلى إفراز نتائج عكسيّة، بدائل أصوليّة وأجوبة ظلاميّة متلفّعة بالأصالة والهويّة، مستغلّة الفراغ الذي خلّفه الاغتراب وحفَرتْه التبعيّة. إنّ تجربة الاحتكاك بالشباب، في مختلف مراحل التدريس، طيلة عاما من حياتي المهنيّة، بيّنت لي كيف أفلح الخطاب الأصولي، الراكب موجة الهويّة التي اختزلها في الدّين والتديّن، وهو يخاطب تلاميذ وطلبة العلوم والتّقنيات، ولم يُفلح كثيرا وهو يخاطب غيرهم، لأنّ هؤلاء يُلقّنون هذه المعارف، عندنا، بمعزل عن التّفكير في تاريخها، وعن ربطها بالتاريخ العام وبغيرها من المعارف، وعن البيئة التي أنجبتها، وعن تجاوز استهلاكها إلى إنتاجها. ولا يبقى أمام الشباب في هذه المرحلة العُمريّة والذهنيّة الدقيقة سوى اللّوذ بدرس «التربية الدينيّة» يَرْوي منه غُلّته ويعثر على أجوبة لأسئلة الهويّة، سَوِيّة أو غير سويّة. وأسئلة الهويّة من أسئلة المسألة الوطنيّة، التي عادت لتُطرح اليوم بحدّة، في ظل «النظام العالمي الجديد» وعودة الاستعمار المكشوف، والغزو السافر، وفي ظل عولمة المحو والتصفية الثقافية والحضاريّة، وتعميم «هويّة» كونيّة هي هويّة الغالب والمنتصر والأقوى، هويّة «وحيد القرن» و «عقرب السّاعة». وحين تتساءل زميلتي «كيف يمكن لمثقّف يعتبر نفسه تقدّميّا أن يدافع عن نصر اللّه في الصيف وأن يطالب بالمساواة بين الجنسين في الشتاء» فذلك يؤكّد مرّة أخرى أنّها لم تدرك أو لا تريد أن تدرك أو هي تدرك وتتعمّد عدم الإدراك طبيعة المرحلة، والمعركة، وطبيعة التناقضات التي تحرّك الواقع وسبل حلّها لصالح الطرف الضحيّة، وبالتالي فالمعطى الأساسي الذي فرض المسألة الوطنية أولويّة عراقية وفلسطينية ولبنانية وسوريّة والمتمثّل في واقع الاحتلال والحصار والعدوان وخلع الأنظمة الوطنية وتنصيب العملاء بالقوّة وتأجيج الفتن الطائفيّة واستهداف الوجود العربي ورموزه ظلّ غائبا من نظرتها وأحكامها، فعسّر عليها أن تستوعب اللّحظة ومقتضياتها، وحال جمود النظرة وتجريدها دون فهم مغزى أن تلتقي «حزب الله» صيفا ولا تلتقيه شتاء، بل مغزى أن تلتقيه ولا تلتقيه صيفا أو شتاء، تلتقيه في خندق المقاومة ولا تلتقيه في خلفيته العقَديّة أو في برنامجه الاجتماعي ورؤيته المجتمعية. فلقد بات من ثوابت الأدب السياسي ونظريّة التحرير أنّ الوطن حين يتعرّض للخطر الخارجي يفرض على كافة الفرقاء داخله أن يُخضعوا تناقضاتهم للتّناقض الرئيسي مع الخطر الدّاهم. ولقد كان لبنان وقتها، في تلك الصائفة، تحت نار العدوان الصهيوني الغاشم وكان لابدّ من صفّ وطني عريض قدر الإمكان جسّدته المقاومة ميدانيّا، ومِن فرز يَكشف وجوه العملاء العاملين على وضع لبنان تحت الوصاية الاستعمارية الجديدة والتضحية بشعبه ومقاومته وعروبته. وكان «حزب الله» (الذي لا أرتضي خلفيته العَقَديّة ورؤاه الاجتماعية...) أبرز فصائل المقاومة الوطنية. فهل تَحُول خلافات الغد حول نمط المجتمع والحكم دون اتّفاقات اليوم حول التصدّي للعدوان ومقاومة الاحتلال ورفع الإذلال؟ إنّ الديمقراطي أو العلماني أو الحداثي الذي يتخلّف عن معركة التحرّر الوطني أو يشكّك فيها وفي عدالتها يفقد مصداقيته ولا يجد من يصغي إلى خطابه الديمقراطي أو العلماني أو الحداثي، وأولى به أن ينسحب داخل قوقعته وينتظر أيّامًا سعيدة خالية من العنف مادام لا يريد معالجة ظاهرة العنف بما هي نتاج مجتمع الاستغلال والاضطهاد، ومادام لا يريد التمييز بين عنف الظالم وعنف المظلوم ولا يرى من حلّ سوى «الفعل الإيجابي» (؟؟!) والاحتكام إلى «الشرعية الدولية» و «المنتظم الأممي» و «المطالبة بالحقّ» (!!!) وحين يستوعب المرء طبيعة المرحلة والمعركة والتناقضات ويستخلص الدروس ويستوي عنده ميزان التفكير فإنّه لن يجرؤ على الاستخفاف ب «مثقّفي الهويّة» أو على الأقل لن يضعهم في كيس واحد، ولن يتحدّث عن الحداثة والعلمانية والحرية حديثا مجرّدا، كما لو أنّ هذه مفاهيم نازلة من السماء ولم يكن لها تاريخ وصلة بالواقع وحراكه وتناقضاته. فالحداثة التي نقف اليوم على فشل ما تناهى منها إلى مجتمعاتنا لم تفشل، فيما نرى، إلاّ لكونها لم تنبت في التربة الوطنية ولم تنشأ عن ضرورة داخلية بل كان إسقاطها عن طريق الحَقْن الخارجي (العنف الاستعماري والإلحاق) فمسّت القشرة والجلد وما مسّت العقل، والروح، فظلّت حداثة أزياء وأثواب وأشكال مبطّنة بِخلطة من هويّتين متنابذتين: هويّة قويّة غالبة منتجة وهويّة ضعيفة مستضعفة مستهلكة وجدت في الدّين والقناع التديّني حصنها الأخير، ويبدو لنا بقاؤها وتعافيها مرتهنا بإقبال أهلها على التّفكير الجدّي في شروط نهضتهم التي لا تبدأ من التخلّي عن هويتهم بل من إعادة النّظر في مفهومها ومحتواها بما هي معطى حيّ يتشكّل عبر التاريخ والتناقض ويضمّ إلى عناصره القديمة عناصر جديدة ويحوي، عدا عناصره المحافظة عناصر تحرّريّة، والدّين بما هو عقيدة لا نراه يشكّل أحد تلك العناصر (لأنّ المعتقد شأن خاصّ وأمر شخصي) بل نراه يُسهم في تشكيلها بما هو حضارة شيّدها إبداع معتنقيه من مختلف الأقوام والطوائف. وهذه الفكرة تضع المقال على عتبة النّقاش الذي يثيره ردّ الدكتور أبو يعرب المرزوقي، والذي نزمع إجراءه لاحقًا.