ليس الآخر بالأمر الواضح في صفائه وهو ليس بالمعطى الغامض أو الملتبس إلى حد اللاتحدد. إن الآخر هو ذلك الماثل أمامي. فهل أعرفه أكثر مما أعرف نفسي؟ وهل يعرفني أكثر من معرفتي بنفسي؟أي وجود وأي نمط حضور للآخر أهو فكر أم واقع؟ خيال ام حقيقة؟ أي موقع له في نحت كينونة الذات؟ هل يعد شرطا ضروريا للوعي بالبعد الإنساني للأنا في وحدتها وتعددها؟ أم هو ذلك القريب-البعيد غيابه يعني محدودية الأنا وحضوره يضع الأنا أمام أبواب التّيه والاغتراب والصراع حدَّ الموت؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تبرز أن السؤال الفلسفي حول الإنّيّة والغيرية مازال يكشف عن إحراجات لا مناص من معالجتها تأسيسا وتأويلا ورهانات، ذلك أن فهم الذات اليوم لن يكون فهما موضوعيا متكاملا ما لم يجعل من الغير بكل منظوراته أفقا معرفيا وانطولوجيا لتدبّر الإنساني ضمن شبكة علائقية مع العالم والتاريخ، تاريخ يعد دائما«مخبر الفيلسوف».لذلك ينشد الفيلسوف الحقيقة في التاريخ وبه، فهو الإنسان والإنسان لا يكون إلا تاريخيا. فهل يعني هذا أن التاريخ هو الكاشف لجدلية الصراع ومشروعية التفاهم بين الأنا والآخر؟ وأي تفكير عقلاني يقدر على تعقل الإنساني ضمن مسار نقدي لا يمكن أن ينال موقعه الا ضمن سجال التأويلات (ريكور)في علاقة بحدلية الوعي واللاّوعي أو العقل واللاّعقل وفي إطار سؤال المعنى للذات والآخر والوجود؟ 1) بداهة الغير : يبدو الغير بديهيّا بصفة مباشرة. فهو بديهيّ باعتباره حاضرا معي في هذا العالم. لكن الغير ليس شيئا إضافيا على العالم أي ليس عرضيا فيه. وإذا أردنا التمييز بين عالمين، عالم الأشياء وعالم البشر فيجب التأكيد أن عالم البشر ليس ملحقا بعالم الأشياء بل منخرط فيه إذ «ليس لي وجود فيزيائيا لا غير... يوجد حواليّ طرقات، نباتات، قرى، كنائس... تحمل كل تلك الأشياء أثر الفعل الانساني. كل فرد يضع «بيئة إنسانية»... أشعر في الشيء الثقافي بالحضور القريب للغير تحت غطاء المجهول..»(ميرلوبونتي: «ظاهراتيّة الإدراك»). إن ما يكشف عنه الشيء الثقافي باعتباره شيئا هو أن الغير له خاصية الحضور في هذا الشيء خارج حضوره الفعلي «بلحمه وعظمه». بعبارة أخرىفي لوحة طبيعية لرسام أرى يعض الغلال. لكن من جمع هذه الغلال اذا لم يكن الغير؟ إن الغير حاضر بمجرد مجاورته للغلال المتنوّعة من جهة أخرى أو زاوية الوحدة نجد الفرد يحقق حاجاته البيولوجية بمفرده. تظهر هنا الجزيرة الخالية باعتبارها العالم الذي يستطيع أن يحيى فيه الإنسان لوحده حيث يغيب الغير. لكن هذا «المتوحد» لا يخلو من إنسانية فهي حاضرة في الأدوات التي يستعملها. لكن هذا الوحدة أو العزلة تبقى الإنسان دون الإنسانية لذلك يعمل الفرد المتوحد ليسمو الى عالم الانسانية بمواضعات وطقوس وبإدخال التنظيم على الزمن (أعياد وآحاد وأعياد ميلاد واحتفالات). إنها أنسنة للزمن واستدعاء لعالم الإنسانية أين يسكن الغير إضافة إلى العالم في دلالته الموضوعية. لذلك يمكن القول إن التفكير الذي يحاول فهم حضور الغير يتأرجح بين أمرين تارة يظهر له أن حضور الغير يكون في صورة العالم الموضوعي فالغير هنا معطى في «عمرو» الذي أراه ولكن أيضا في هذا الكتاب أو هذا الحقل الذي صنعه، الغير هنا هو عالم إنساني إذن، هو حضور يتجاوز ويحدد حقيقة كل ما يوجد في العالم. وطورا يظهر له أن كل ما يوجد في العالم يحد من حضور الإنسان: الصحراء طبعا ولكن أيضا فناء الأفراد والحضارات، أو الحيّز الضئيل للإنسان في الكون, معطيات علمية وإدراكية تلتقي في نفي قدرة الغير على إنشاء عالم على صورة الإنسان ما عدا حضور تجريبي في العالم. في ما عدا ذلك أي بالنسبة إلى العالم الإنساني وحضور الغير في غياب كل فرد لن يكون الغير إلاّ تبعة لا محددة لبعض الأفعال او لبعض الأفكار، ولن يكون العالم الإنساني إلا مجموع أفراد ، أشياء أو أفعال، في كلمة مجموع وقائع انثروبولوجية, ستكون للغير قيمة ملخص أو تصنيف وليس له أية دلالة ميتافيزيقية أو متعالية. 2- من الكوجيطو إلى الآخر أو الآخر كأنا أخرى: وحتى إذا سلمنا أن حضور الآخر لا يمكن اختزاله في دلالة هذا الفرد أو ذاك يبقى أن الآخر يجب أن يظهر لي في إدراك مباشر, ومهما كانت بداهة وجود الآخر فإن طبيعة هذا البداهة هي التي تطرح إشكالا. إذ لا يتعلق الأمر ببيان أن الآخر يوجد أو باستنتاج وجوده من خلال تمظهرات موضوعية، وكأن الآخرَ كائن لا يدرك ويجب البحث عن مؤشرات له في العالم الحسي، بل يتعلق بفهم كيفية إدراكي الآخر كما هو, إن تحليل البداهة أهم من البحث عن دليل. لا يطال الشك عند «ديكارت» الآخر بالتحديد بل العالم نفسه، من جسدي الى الارض والسماء وحتى الحقائق الرياضية: فكل ما ليس انا يعتبر خطأ او غير موجود. وبما ان الآخر يوجد ضرورة في العالم لا باعتباره شيئا ما فيه رغم جسمه المادي والمرئي ورغم صوته المدوّي. لذلك لا يكفي أن تقودني التأملات إلى اليقين من وجود الأشياء الخارجية والمادية كي أكون متيقنا في الآن نفسه من وجود الآخر أو على الأقل لفهم ما أعرف عندما أعرف أنه يوجد. إن اللاّيقين يضرب لا الآخر في ذاته بل طبيعة المعرفة التي تحصل لي عنه. وإذا كانت صرامة المنهج الفلسفي تفرض إيجاد بداهة اصلية تكون حسب عبارة هيجل بمثابة «أرض بكر» للحقيقة، وإذا كنت أجد هذه الحقيقة الأولى في الكوجيطو فإن السؤال يتعلق بمعرفة طبيعة العلاقة التي يقيمها وجود الآخر أو حتي بداهته مع هذه الحقيقة.ومن ثمة فإذا كان التفكير الخاصية الجوهرية للإنسان فإن الحقيقة الصلبة للكوجيطو ستكون حقيقة داخلية صرفة. أما الآخر فهو بالتأكيد خارجي لأنه يوجد في العالم. وبذلك فهو غريب، كائن آخر خارج الأنا، لي به وعي دون معرفة أية حقيقة يملك. فالأنا متيقنة من وعيها ووجودها رغم عدم تيقنها من أي شيء خارج الأنا المفكرة أو الكوجيطو. فالكوجيطو هو مؤقتا في وضعية «الأنا وحدي في العالم» أين يظهر وجود الأنا باعتباره الحقيقةَ الوحيدةَ. وهي وضعية تتجلّى في صورتين: في الأولى يبرز وجود الأنا باعتباره الحقيقةَ الوحيدةَ والعالمُ لا وجود له أو مشكوك فيه، في الثانية الأنا متيقّنة من وجود العالم ولكن يظهر كل وجود آخر غير الأنا بوصفه شيئا. في الحالة الأولى الأنا هي الوحيدة التي تملك وجودا حقيقيا، في الثانية هناك وجود آخر حقيقي خارج الأنا ولكنّ وجودي وحده له صفة الأنا: إنها الأنا وحدي في العالم. إن مفارقة الأنا وحدي في العالم ليست في صعوبة تخطّي الصورة الأولى لها بل في أن كل محاولة تخطٍّ لها تُوقعنا في الصورة الثانية وكأننا نصل دائما إلى طبيعة مادية موضوعية، وكأن الوجود خارج الأنا يأخذ ضرورة شكل وجود طبيعي. وما يوجد خارج الأنا لا يمكن أن يكون إلاّ وجودا ذا طبيعة مضادة للأنا. إن اكتشاف العالم الخارجي بواسطة الكوجيطو لا يتحدّد إلا في صورة يقين يتعلق بطبيعة ووجود الأشياء المادية. بعبارة أخرى إن رفض المثالية يتجسد دائما في شكل إقرار بمادية العالم وبالتالي بإخفاء عالم البشر. يتحدّد وجود الشيء المادي «كلا أنا» يوجد الآخر خارج الأنا «كلا أنا.» نقف من ثمة على فرق جذري بين غيرية الآخر وغيرية المادة : للخروج من وضعية الأنا وحدي في العالم وجب المحافظة على أصالة غيرية الآخر. لكن الآخر ليس «أنا» أخرى إلاّ بوصفه «أنا» في العالم الخارجي. ولكن ألا يمثل هذا العالم الخارجي أصلاً الشيءَ الماديَّ وبالتالي كل ما ليس أنا؟ من هنا يكون التساؤل حول كيفية ارتباط غيرية الأنا الأخرى بالغيرية، بغرابة الشيء المادي في العالم. إذا لم يوجد ما ليس أنا بوصفه مادّةً، إذا لم يكن وجود غريب عن طبيعة الأنا، هل يمكن التفكير في وجود غيرية الأنا الأخرى؟ هل يمكن الإقرار بوجود كثرة في الأجسام الحية وكثرة في البشر دون وجودها أولا في الأجسام المرتبطة هي نفسها بالمادة؟ هل يعني هذا أن المادة هي المحددة لغيرية الآخر رغم أن غيريّة الآخر ليست غيريّة مادية بما أن الآخر هو وجود مفكر آخر؟ تدرك الأنا وتكتشف دائما الآخر في العالم: يوجد الآخر هنا أمامي بجسده الذي يحتل حيّزا محددا بين الأشياء المادية الأخرى. وعند تأمل هذا الإدراك، يتبين أن ما هو حاضر أمام الأنا بوصفه «آخر» إنما هو هذا الجسد الخاضع إلى قانون العالم المادي الخارجي. وبالفعل إن هذا الجسد يمثل حضور الآخر وبالتالي حضور أنا أخرى وبطبيعة الحال توجد خاصيات تميز هذا الجسد عن بقية الأجساد: الشكل، الحركة، الأصوات التي يطلقها, ولكن كل هذا شيء حسّي ومادي. من هنا يبرز أول شكل للصعوبة: ما الذي يبرر منح أشياء في العالم، لا تدرك إلا باعتبارها أشياءَ ماديةً: خاصية أن يكونوا «إنّيات» أخرى كيف يمكن منح خاصية التمثل الداخلي لوجود مرئي ليس له من حضور إلا الحضور المرئي؟ إنها مفارقة الآلي : في الظاهر لا يمكن منح شيء خارجي أكثر من آلية ميكانيكية. نصل هكذا إلى الصورة الثانية للأنا وحدي في العالم: حتى وإن قبلنا أن الآخر كائن يقول أنا عن نفسه نؤكد بالنسبة إلى الأنا أن الآخر ليس دائما إلا شيئا أي ظاهرة, إن إدراك الآخر في العالم يستند دائما إلى تحدٍّ يهمّ تجاوز الأنا لمعرفتها الراهنة التي تتصل بالأشياء وبالطبيعة المادية. لكن عندما نفكر لا في إدراك الآخر بل في الآخر في حدّ ذاته يكتشف الفكر على العكس من ذلك أن غيريّة الآخر تسبق نوعا ما ودائما غيرية أشياء العالم. ويعدّ هذا صحيحا تاريخيا: فبالنسبة إلى الطفل يمثل الأب والأم الغيرية الأولى وليست غيرية العالم، بالنسبة إلى الإنسانية التوجه الأولي لها هو التيمية (عبادة الأشياء) التي تتمثل حسب «أ.كونت» في «اعتبار الأجسام الخارجية حاملة لرغبات وإرادات مشابهة للانطباعات الشخصية للمشاهد». ماذا تعني التيمية إذا لم تكن تدلّ أن الغيرية والوجود الخارجي للأشياء لا يمكن إدراكها بدءا إلا بوصفها كثرةً لانهائيّةً «لإنّيات» أخرى أو لمشابهين للأنا ولكن من زاوية نظر متعالية يميل الفكر إلى جعل غيرية الآخر أنموذجا وأصل كلّ غيريّة وبالتالي لغيرية الأشياء. وهو ما يؤكده هوسرل: «إن أول غريب في حدّ ذاته، أوّل «لا أنا»، هو الأنا الأخرى»، أي الآخر. ومن ثمة فإن غيرية الأشياء ليست إلا اشتقاقا من غيريّة الآخر. 3- الجسد العلامة، التعبير: لكن وجود الأنا والآخر لا يتحدّد بوصفه فكرا لا غير: إن الأنا والآخر يظهران لبعضها البعض في العالم. الأنا لا يدرك الآخر فكرًا داخل «البينذاتية» وإنشاء العالم: إن اكتشاف «البينذاتية» لا يقدم للأنا الآخر كما هو، إنها تمكن الأنا من التفكير، إن غيرية الآخر ليست ثانوية. بقي أن نعرف كيف يجب أن يقدم الآخر للأنا في العالم حتى لا ينفي هذا الحضور الفعلي الخاصية الأصلية لغيريّته. يوجد الآخر كما الأنا في العالم، يوجد بهذا الجسد الذي تراه الأنا. ليست الأنا نفسها فكرًا صِرْفًا، فالأنا تدرك ذاتها لا باعتبارها جوهرا مفكّرا وحقيقةً أولى ولكن أيضا بوصفها وحدةً بين النفس والجسد. تتّحد النفس مع الجسد وتملك بذلك خارجية داخلية هي بمثابة الامتداد للنفس (ديكارت رسالة إلى إليزابات 28 جوان 1643), تدرك الأنا التّناسب بين الإرادات والانفعالات وبين حركات أعضاء الجسم، أو بين كل الجسم في فضاء العالم.ترى إذن الأنا أجزاء من الجسم أو الجسد كلّه في مرآة, والأعين التي ترى بها تظهر لها في المرآة... فمن الأنا إلى حركة الجسد المدركة ومن الحركة الجسد إلى الحركة المرئية من خارج ومن الحركة الخارجية لجسد مشابه لجسد الأنا إلى فكر : يوجد انتقال من اللاّمرئي إلى المرئي(في الأنا) وفي المرآة من المرئي (للآخر) إلى اللاّمرئي للآخر كأنا أخرى لكن عندما تدرك الأنا الآخر لا تكتفي بإضافة خاصيات الحياة لأجسام مادية وبإضافة خاصيات الوجود باعتباره أجسادا لأنفس أخرى، بإضافة كل ذلك إلى العضويات. إن الوعي بالآخر ليس بداية انتقاء من بين الأشياء المادية أو تركيبا لخاصيات إضافية. تلتقي الأنا بالآخر شخصًا في خارجيته. وهكذا فإن الظواهر المادية (الاحمرار، النظرات الحادة) التي تراها الأنا في وجه الآخر هي أيضا وقائع لا يمكن الاكتفاء بتأويلها بوصفها مؤشرات دالة على الغضب أو عن تعاطف، ولكن باعتبارها ظواهر تعيشها الأنا كحضور لهذا الغضب وهذه العاطفة. والأنا لا تصل إلى التمييز بين ما هو مادي وما هم فكري إلا لاحقا بواسطة التفكير. وينسحب نفس الأمر على اللغة : عندما تخاطب الأنا الآخر تتبع الكلمات الأفكار وتدرك الكلمات التي يوجهها الآخر في المقابل باعتباره حضورا حيًّا لفكر يعبر عنه. إن الاحمرار كما اللغة هي علامات وتوجد العلامات ، في تموضعها المادي والمحسوس، من أجل شيء آخر غائب ماديا. يعيش الوعي هذا الحضور المادي للعلامات كما يعيش حضور دلالاتها. يوجد الآخر هنا، إنه حاضر في هذا العالم الذي توجد فيه الأنا ووجوده وواقعيته ليسا مستنتجين. إن الآخر حاضر أمام الأنا ،لأنا تملك القدرة على عيش الخارجية مثل الحضور الفعلي للداخلية، الجسد باعتباره الموجود هنا للفكر، الرمز باعتباره بداهة دلالته. لكن يمكن لهذا الاحمرار أن يكون نتيجة حرارة الطقس ولا يدل على غضب أو حياء، والحكم نفسه يطلق على اللغة، يمكن أن تكون مجرد أصوات. لذلك وجب على الأنا أن تؤسس معطيات حسية باعتبارها رموزا قبل أن تعيشها حضورا للدلالة: يجب نفي استقلالية وجوده الخاص، ومحو حضورها الطبيعي والمباشر لصالح حضور دلالتها. لكن هذه الغيرية التي تأتي لإخفاء الحضور الحسي لن تكون سوى غيرية الآخر. يحضر الآخر إذن حضورا أصليا في العالم باعتباره هذا النّفيَ الذي يتجاوز كلّ حضور آخر وبالخصوص الحضور الحسّيّ نفسِه. 4) - العلاقة بالآخر : 1- المشابه بين التماثل والتباعد: يبدو ان معرفة ماضي الآخر إضافة إلى واقعه التجريبي غير كافية لإدراكه في كل أبعاده. إن ماضي الآخر لا يتطابق كلية مع طبيعته المادية الماثلة أمام الأنا: لا تستطيع الأنا توقّع ما سيقوم به الآخر مستقبلا مثلما يتوقع العالم بالظواهر العلمية اعتمادا على مبدأ السببية، إن توقع افعال الآخر ليست بنفس اليقين ولا بنفس الدلالة لتوقع الظواهر الفيزيائية مثلا, ففي حين تستند توقعات الظواهر العلمية المادية إلى قوانين رياضية تطبق على كائن مختلف عن الأنا (المادة) فإن توقع أفعال الآخر تعني استيعابه في الأنا، إن ذلك التوقع لا يتحقق إلا بافتراض حس مشترك يوحد المشاعر والرغبات يقوم على اعتبار الآخر شبيها للأنا، إن ما يسمى بالقوانين النفسية ليست إلاّ تعميما لوقائع تجريبية لا تقدم شيئا: في الحقيقة إن توقع فعل الآخر يتم دائما بالاستباق الخيالي للسلوك الخاص للأنا في حالة مماثلة. ذلك أن الأنا تعتقد دائما أن الآخر يحسّ بما تحسّ به هي ويخاف مما تخافه ويرغب فيما ترغب فيه ويكره ما تكرهه. لكن اختلاف الطباع والرغبات لا يجعل من كل إنسان فرادة غريبة كلّية عن الآخرين إلى درجة لا يقدرون معها على توقع ما سيقوم به أو على فهمه. وعليه فإن توقع الآخر يتأسس على الفهم، والفهم لا يتحقق إلا إذا تجاوزنا تنوع الأهداف ومواضع الاختلاف بواسطة مجاز متواصل. وهذا المجاز نفسه غير ممكن إلا إذا كان تنوع الأشياء هو الذي يثبت في أشكال مختلفة أحاسيس متشابهة ومشتركة لكل البشر. إن إمكانية الأدب مثلا تستند إلى هذا الاستيعاب المجازي وهذا الحس المشترك: إن نجاح التراجيديا والرواية في شد انتباهنا والتاثير فينا يتأسس على تماثل المتلقي مع البطل: تجد الأنا نفسها في هذا البطل. إن الأدب يقدم لنا الآخر بوصفه جملةَ ممكناتٍ للأنا نفسها، فهو يعلمنا أن الآخر إحدى شخصيات الأنا وإحدى إمكانات مشروعاتها المستقبلية. (رسكلنكوف في الجريمة والعقاب دوستيوفسكي). لكن جوهر الأدب هو محو الاختلاف أو إخفائه. فكيف يمكن الربط بين الهوية والاختلاف في تأول العلاقة بين الأنا والآخر؟ إن المشكل هنا يتمثل في كيفية الربط بين الهوية والاختلاف، فبحسب انثروبولوجيا الهوية، تكون مادة الأحاسيس هي نفسها عند كل إنسان والاختلاف لا يكون إلا في اتجاهها وفي موضوعاتها. وعليه فنفس الخوف يعد رذيلة إذا تعلق بالموت وشجاعة إذا كان خوفا من فقدان الشرف, وهو ما بينه افلاطون حين أكد أن اللذة والألم «هما المصدران اللّذان منحتهما الطبيعة حرية الحركة لتحديد سعادة الفرد، المدينة وكلّ كائن حي». 2- التماثل والاستيعاب: إن توقع أفعال الآخر ومحاولة معرفة أفكاره وأحاسيسه يتأسس على الطبيعة المشتركة التي تعبر عنها الأنا بقولها عن الآخر إنه شبيهي. لكن يضاف إلى هذا التماثل المعطى تماثلا مكتسبا : بقدر ما أعير للآخر أحاسيسي وتقييماتي بقدر ما أبين له أنني أعتقد تلقائيا أنه يحب ويكره نفس الشيء مثلي، حينها يصبح الآخر شبيهي. إن وحدة الإنسانية في أدنى مستوياتها تكشف عن طقوسها، عاداتها وحتى عن أنْموذجها: تصبح حينئذ مظلّة توحد كل الأفراد. ولكن بفعل استيعابه داخل المجتمع يصبح الآخر مجهولا من قوة ما صار عليه من تماثل، يصبح عضوا في قوة لا شخصية يكونها الجميع معا ولكنها تتجاوز كل واحد في فرديته. يجد الأنا هكذا في الآخر الناقل لهذه القوة العامة للاستيعاب، مثلما يلتقيها الآخر في الأنا. وها ما يعنيه تحديدا «ألسبياد» حين سأله سقراط من علمه اليونانية فأجاب: «الكل». ملاحظة: استند هذا المقال أساسا إلى المرجع التالي: الآخر «لبرندته دولامار، باريس، 1996.