النموذج الإقتصادي العالمي المخيم بظلالة السوداء على العالم ، يشدّ كل يوم أكثر فأكثر بقبضة الحديدية على رقاب الشعوب وحكوماتها، لا يخفي أصحابه نواياهم الحقيقية، بل يصرحون علانية ان همهم الوحيد الربح ولا شيء غير الربح ويعلنون ويكررون بأن تكديس الثروة هو غايتهم وان نمط اقتصادهم هذا ليس في حاجة الى الجميع بل يكفيه ثلث سكان المعمورة لتسيير دواليبه وأما الثلثان المتبقيان فهي عبء عديم الجدوى لا فائدة منه ثم يضيفون بكل صلف بأن ليس لهم ما يقدمونه الى هذه الغالبية العظمى من البشر... في ظل هذه الاوضاع الجديدة لم تعد الدولة المشغل الوحيد كما لم تعد تتحكم في سوق الشغل وحتى تتجاوز الدولة عجزها بعثت بآليات جديدة للتشغيل وقدمت الحوافز لأصحاب العمل الى جانب تمكين أصحاب الشهادات العليا والشهادات المهنية من القروض لبعث المشاريع وأسست للغرض مؤسسات ماليّة... فدولة اليوم عوض أن توفر الشغل لأصحاب الشهادات، أصبحت تعوّل عليهم كل التعويل في خلق مواطن الشغل لأنفسهم وكذلك لغيرهم من الشباب العاطل ! كما تراهن الدولة على القطاع الخاص ليفتح سوقا كبيرة لطالبي الشغل غير أنه يبدو ان لا هذا ولا ذاك اعطى النتائج المرجوة منه، بيد ان اعداد البطالين لم تعرف الانخفاض ولا حتى الاستقرار بل هي في ارتفاع مطرد وبلغت اعدادا تجاوزت كل التوقعات وبعض المصادر تقول ان الرقم تجاوز ال 75 ألفا من حاملي الشهادات العليا. إن الشغل هذه القيمة الاجتماعية والتي بدونها يفشل الإنسان في تحقيق إنسانيته، يبدو اليوم عصيّة على الشباب المتعلم صاحب الشهادات فيجد نفسه مهمّشا خارج الدورة الاقتصادية. ترى كم سيظل واقفا صامدا كريما...؟ فالخوف كل الخوف ان تتآكل إنسانيته فيكفر بالوطن ومن عليه لاقدّر الله، كما قد يدفعه حرمانه من حقه في الشغل الى السقوط في الانحرافات وما أكثرها اليوم...! إن العاطلين على العمل في حاجة ماسّة للحماية وكلنا مسؤولون على حمايتهم من الوضعية المتردية التي هم فيها الآن، فعلى مكونات المجتمع المدني كافة تحمل مسؤولياتها كاملة، فأمام الجميع تحديات كبيرة ومهمات صعبة لا محالة لكنها ليست بالمستحيلة، المهم ان نبدأ في العمل ونفكر جديا في الحلول. فشبابنا العاطل على العمل يحاول منذ مدة ابلاغ صوته فأسس البعض منه لجانا سماها «لجان اصحاب الشهادات المعطلين على العمل» والبعض الأخر يوزع البلاغات وكتب في وسائل الاعلام الى جانب الاحتجاجات الفردية، هذه الظاهرة فرضت حراكا هنا وهناك ونجحت في استقطاب انتباه الرأي العام لينظر الى أوضاعهم المزرية التي تصدرت أعمدة الصحف فتجندت بعض الاقلام مشكورة في إبرازها ومتابعة أنشطة أصحابها، كما جعلت النقابيين يتفاعلون معها في عديد الجهات كالقيروان وقفصة وغيرها من الجهات ... غير أن ذلك يبقى محتشما ولا يرتقي الى حجم الظاهرة، هذه الظاهرة التي عمت والواقعية تفرض علينا جميعا تنظيم طالبي الشغل في هيئات، هذه الهيئات تعمل على: 1) قتح حوار اجتماعي ومفاوضة «أصحاب مواطن الشغل» بغية تقاسم عادل لمواطن الشغل المتوفرة حسب مقاييس يتم الاتفاق عليها بين الطرفين. 2) تعزيز نضالات مكونات المجتمع المدني من أجل الحريات ومن أجل عالم آخر ممكن ومن أجل عولمة بديلة ومن أجل عالم آخر أفضل بدون حروب تسوده الحرية والعدالة والتعاون... فنشأة هذا المكون الاجتماعي الجديد مسألة خطيرة وصعبة ولن يقدر على تأسيسها أحد غير الاتحاد العام التونسي للشغل وذلك لسببين على الأقل: 1 إن هذه المنظمة الجماهيرية كانت دائما القلب النابض للشعب والناطقة بلسان المحتاجين والمظلومين منه ولم تتخلف يوما على خدمة الوطن كلما كان في حاجة الى ذلك. 2 ان مؤسسي هذه المنظمة عندما اطلقوا عليها اسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» كانوا يقصدون ما يفعلون فاهتمامات هذه المنظمة تتجاوز حماية الشغالين الى حماية الشغل سواء كانت مواطن شغل أو طالبي شغل. فتأسيس نقابات تمثل جميع شرائح أصحاب الشهادات تنضوي تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل وتأتمر بقوانينه وتنشط في فضاءاته الرحبة في كل مكان من تراب الوطن لأمر عظيم فيه خير كثير للجميع، فهذه النقابات الشبابية ستعزز دور الاتحاد العام التونسي للشغل وباقي مكونات المجتمع المدني ولن يستنقص ذلك من شأن السلطة وهيبة الحكومة في شيء، بل يخدمها لأن هذه الهيئات ستعمل على حماية العدالة الاجتماعية وحقوق الافراد وعلوية القانون وستجعل الشارع يصمت عن القيل والقال وعن المحسوبية والأكتاف وبيع الوظائف وغيرها من الاوصاف التي تسيء للدولة وتنخر الحكم ثم أن ذلك يستجيب لروح اتفاقية الشراكة التي أمضتها الحكومة والتي تدعو الى تقوية المجتمع المدني ليلعب أدوارا تعاضد مهام الدولة. فداخل الاتحاد سيفهم أبنائنا، لماذا الدولة شحيحة في تشغيلهم؟ ومن المسؤول الحقيقي عن أوضاعهم المتردية؟ فبالرغم مما تفعله الدولة في سبيل التشغيل وما تبذله من جهد تبدو عاجزة تماما أو تكاد على احتواء معضلة البطالة لسبب بسيط ان الاقتصاد الوطني يرتبط باقتصاد عالمي ليبيرالي، هذا النموذج العالمي يؤثر فيه سلبا ويضع الدولة في موقع لا تحسد عليه فيبعثر أولوياتها فيصبح من أوكد أولوياتها دعم القطاع الخاص وحمايته بكل الوسائل المادية والمالية والقانونية وذلك على حساب أولوياتها الطبيعية المتمثلة في التعليم والصحة والتشغيل... فأصحاب الشهادات من أبنائنا البطالين يقدرون على لعب الأدوار المهمة ويقدرون على المساهمة في الجدل الاجتماعي الى جانب بقية القوى والمكونات، فمستقبل الوطن بأيدي مواطنيه الكبار وكذلك وبالخصوص الصغار منهم فالوطن في حاجة الى جميع ابنائه والوطن للجميع وشرف الوطنية ينبع من الأعماق متى منحنا ذلك الوطن الحرية والكرامة وحب الحياة. فعلينا ان نعلم أبنائنا كيف يصنعون المستقبل ويحبون الوطن!.
------------------------------------------------------------------------ * عضو الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد