في هذه الايام، أحسستني كأنني هناك في معرّة النعمان منذ ألف عام وكأن الجيش السوري الذي يدخلها بمدرّعاته وأسلحته هو نفسه جيش صالح بن مرداس الذي دخلها منذ قرون ليهدمها على رؤوس أهلها بالمنجنيق لولا ان تصدى له شاعرها وفيلسوفها وشيخها أبو العلاء المعرّي فهي مسقط رأسه وإليها يُنسبُ وبها ضريحه الذي لا يزال قائما فيما أعلم ان لم تقصفه القوات السورية وتثأر بعد ألف عام لصالح بن مرداس الذي أتاه المعري حين استغاث به أهل المعرّة راجين منه ان يدفع عنهم ظلم هذا الطاغية فقال المعرّي فيما قال: ❊ قدمنا الى صالح بهديل الحمام ❊ فقابلنا صالح بزئير الأسود فخجل ذلك الظالم وقال: لا والله يا شيخ، لا نقابلك الا بالودّ وقفل راجعا ولم يهدم معرّة النعمان وعاد أبو العلاء المعري الى عزلته التي دامت كما قال المؤرخون خمسين عاما لم تقطعها الا تلك المرة التي خرج فيها لصدّ الظلم عن موطنه وسمّى المعرّي نفسه رهين المحبسين بل رهين المحابس الثلاث: العمى والبيت وكون الروح في الجسد وقال: ❊ أراني في الثلاثة من سجوفي ❊ فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي ❊ وكون الروح في الجسد الخبيث ذلك ما حصل بالامس في معرّة النعمان وفي عهد التطاحن بين الفاطميين والحمدانيين والروم حتى طمع الاعراب في المدن والحواضر كما فعل صالح بن مرداس، هذا زعيم بني كلاب الذي استطاع ان ينتزع حلب السورية ويدوم حكم الدولة المرداسية اكثر من خمسين سنة كما قال المؤرخون وكأنه لا أثر لسيف الدولة ومن جاء بعده من الحمدانيين ولا أثر للفاطميين وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله الذي انتابه الخجل من جراء الشعور بالعظمة فسمى نفسه الحاكم بأمره ثم ادعى الربوبية جهارا واعترف به الاف الناس ربا من دون الله وذلك خوف بطشه كما قال المؤرخون، الا انه رغم كل هذا كانت للعلم منزلته سواء لدى الحمدانيين او الفاطميين او الروم والازدهار الثقافي كان خير شاهد كما أثبت ذلك المؤرخون ولنا في بلاط سيف الدولة خير دليل ذلك ما حصل بالأمس في معرّة النعمان وقد وجد أهلها من يذود عنها من المفكرين، أما اليوم فهل يستمع الحكام ومنهم بشار الأسد، هل يستمعون الى الحكماء ويتّعظون بقول الثعالبي في يتيمة الدهر، حين يقول: »معاداة الكتاب ليست من أفعال ذوي الألباب، وان مماراتهم ندامة ومسالمتهم سلامة...« وهل هناك عقلاء وحكما أصلا والسيف قد استطاع قطع الألسن والرقاب وهو لم يفارق غمدهُ وهل هناك سلاطين تصالح بن مرداس الذي خجل من أبي العلاء المعري رغم ان هذا الظالم لا يعدو ان يكون سوقيًا قاطعَ طريقٍ كما قال المؤرخون؟ ولماذا حين نقارن حكامنا بحكام الغرب نُرمَى بالزندقة والتغريب والتخريب واذكاء الفتنة ونلجم بوجوب طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا الذين هم في الحقيقة ليسوا منا مادمنا لم نرشّحهم ولم ننتخبْهم ولم نُولّهمْ علينا، أقول هذا واذا استحضر موقف الزعيم الفرنسي »شارل دي ڤول« حين بلغه ان الفيلسوف الفرنسي »جان بول سارتر« كان من ضمن الموقوفين في الاحتجاجات التي خرجت تطالب باستقلال الجزائر فقال شارل ديڤول: »أطلقوا سارتر فهو وجه عن وجوه فرنسا وهذا عار على فرنسا...« أو كما قال. أم لهم حكاؤهم ولنا حكماؤنا ولهم رؤساؤهم ولنا رؤساؤنا الذين قال فيهم أبو العلاء المعري دون اي خوف: ❊ يسوسون البلاد بغير علم ❊ فينفذ أمرهم ويقال ساسة فَأُفٍّ للحياة وأُفٍّ منّي ❊ ومن زمن رئاسته خساسه. ذلك هو حكيم المعرة أبو العلاء الذي مازالت روحه الى اليوم تحتج على بشار الأسد وأمثاله وتندد بجرائمهم وتقول: ❊ ظلموا الرعيّة واستباحوا حقها ❊ وعَدَوْا مَصَاِلحَهَا وهُمْ أُجراؤُهَا. ❊ الهامش: انظر على سبيل المثال : مع أبي العلاء في سجنه لطه حسين.