في قراءة أولى لانتفاضة شعبنا ضد الطغاة ونجاجه في »سابقة عربية« في اسقاط النظام »بالقوة السلمية« هي قراءة تحتمل الخطأ وتحتمل الصواب، أجد أن للحدث جانبين الاول اقتصادي والثاني سياسي. حيث تزامن الفشل الاقتصادي مع القمع والفساد مما أدى الى وضعية غير محتملة، دفعت بقوى شعبنا المناضل الى الاسراع بإنهاء حقبة من الفساد الاجتماعي التام. وبقطع النظر عن الترتيب التفاضلي الذي خاض فيه البعض حول اعتبارها »ثورة كرامة« أو »ثورة خبز« فإني سأتناول الوضع الاقتصادي الخانق. مع الاشارة الى انه لا ينفصل مطلقا عن حالة الفساد السياسي. جدلية تدخل الدولة وتحرير الاقتصاد لقد عرفت بلادنا منذ تولى الرئيس المخلوع زمام الحكم في 1987 موجة خوصصة شملت كل القطاعات المنتجة رغم احتجاج القوى السياسية والاجتماعية على تلك العمليات ورغم عدم قدرتها على تغيير واقع الامور. والحقيقة ان الخوصصة ليست فكرة النظام السابق انما هي سياسة عالمية أملتها التركزات المالية العالمية ووجدت كل الآذان الصاغية في تونس ولم تتطلب 23 سنة لفهمها كما هو الحال مع مطالب الشعب. هذا الانسياق وراء الاملاءات الخارجية جعل مدير صندوق النقد الدولي يعتبر تونس التلميذ النجيب في تطبيق سياساته وجعل الرئيس الفرنسي السابق يصف تونس بالمعجزة الاقتصادية ولكن نفهم حقيقة ما جرى وجب التذكير بأن الأنموذج الاقتصادي العالمي الذي سيطر في فترة الاربعينات الى حدود التسعينات من القرن الماضي كان قائما على تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني لتعديله. وكان الهم الأول هو الحد من نسبة البطالة وان كان على حساب الاستقرار المالي، حيث تقوم الدولة بالاستثمار ودفع النمو الاقتصادي. ذلك ان خلق مواطن الشغل يؤدي الى ارتفاع الدخل الفردي وهو ما يدفع عملية الاستهلاك بما يرفع في الطلب وللاستجابة لهذا الطلب الاضافي تنمو الاستثمارات وتحقق بذلك النمو الاقتصادي (لابد من الاشارة الى أن العملية ليست ميكانيكية ومباشرة ذلك ان النموذج الاقتصادي يختزل الواقع بشكل رهيب). وقد حقق هذا الأنموذج الاقتصادي نتائج اجتماعية واقتصادية ممتازة انحدرت نسبة البطالة الى ما دون 3٪ في أوروبا باستثناء المانيا الغربيّة. بعد أزمة السبعينات تحول العالم الى »الليبيرالية« وهي الانسحاب التام للدولة من المجال الاقتصادي و »تحرير« السوق الذي سيجد بآلياته الخاصة توازنه الطبيعي. وهكذا شرعت الحكومات في التفويت في القطاع العام وكفت عن الاستثمار وتراجعت عن مهامها الاجتماعية واصبح لكل حركة ثمن. لكن هذا التوجه لم يكن الحل الامثل للنجاعة الاقتصادية حيث توالت الازمات المالية والاجتماعية، حيث ان اطلاق العنان لأصحاب رؤوس المال يرتعون في المجتمع »كما يرتع الثعلب في قن الدجاج« أدى الى غلبة منطق الربح والربح الاقصى على التوازن الاجتماعي فصاحب رأس المال مستعد لفعل كل شيء من اجل مراكمة المال لذلك يضغط بكل الطرق على مصاريف الانتاج وتكون اليد العاملة هي الفريسة السهلة فيعمد الى تشغيل اقل عدد ممكن من العمال واجبارهم بألاعيب مختلفة على انتاج أقصى كمية ممكنة، وهو ما أنتج أعدادا غفيرةً من العاطلين بلغت نسبتهم حدودا قياسية في أوروبا، ولا داعي للحديث عن هذه النسبة في دول العالم الصغيرة حيث تجاوزت كل معقول. وتجدر الاشارة الى ان تطور الاسواق المالية وانفصالها عن دائرة الانتاج الفعلي عمق الازمات الاجتماعية وكان السبب الرئيسي في الازمة المالية العالمية الاخيرة. الفساد الاقتصادي عام وشامل ما زاد في سوء هذ النموذج الاقتصادي في تونس هو الخلل الذي شاب سلوك الدولة بسبب الفساد السياسي، ففي ظل القمع الذي كان مفروضا على كل مكونات الشعب ونخبه السياسية والفكرية والعلمية والثقافية جعل عملية الرقابة أمرا مستحيلا وهو ما جعل مصير الاموال المتأتية من عملية الخوصصة غامضا وفي المقابل لم يحلّ الاستثمار الخاص الفراغ الحاصل جراء تراجع دور الدولة حيث لم تنجح كل محاولات الحكومة في جلب الاستثمار الأجنبي المباشر لسبب بسيط هو أنها راهنت على العوامل »الساكنة« كالتخفيضات الجبائية مهملة العوامل الديناميكية كنوعية التعليم والبنية الاساسية كما لم تنجح الحكومة في دفع الاستثمار داخل الجهات الداخلية (مصنع واحد في ولاية القصرين وصفر مصانع في سيدي بوزيد). »فالحوافز« والتشجيعات التي منحتها الدولة للقطاع الخاص لم تمثل عامل دفع امام خشية المستثمر من سطوة أفراد العصابة الحاكمة على مشروعه في حال نجاحه. غير انه من الضروري الاشارة الى ان السطو على المشاريع ليس سوى شكل خصوصي من اشكال الفساد، أما الشكل الأكثر شيوعا هو ما منح من »أموال عامة« لفائدة العائلة الحاكمة وغيرها من اصحاب رؤوس الاموال في شكل اعفاءات جبائية ومالية شرعية وغير شرعية دون ان يكون هناك مقابل فاعفاء شركة من الأداءات لمدة عشر سنوات سرقة موصوفة هذه الاعفاءات ارتفاع في التشغيلية واستقطاب لليد العاملة. وبصفة عامة فإن التوجه الليبرالي الذي انتهجته الدولة يستوجب الشفافية وحرية المعلومة وضمان الملكية وهي شروط لم تتوفر في ظل الفساد الذي عرفه نظام الرئيس المخلوع مما زاد في تعفن الامور وتدهور الحالة الاقتصادية للبلاد أو لنقل على الاقل انها لم تكن في المستوى الممكن تحقيقه. الحل في تدخل الدولة الآن وقد رحل الفاسدون لابد من القضاء مرة والى الابد على الفساد ولابد من العمل على اصلاح الاقتصاد، وفي اعتقادي إن الحل يكمن عبر استرجاع الدولة لدورها الاقتصادي لعدة اسباب منها ما هو مرتبط بفشل الانموذج الليبيرالي عموما ومنها ما هو متعلق بالواقع الاقتصادي التونسي، فالمشكل في تونس ليس في نسبة النمو الاقتصادي التي بلغت خلال العشرية المنقضية نسبة 5٪ في المعدل وانما تكمن المصيبة في التوزيع غير العادل للثروة المنتجة بين الجهات والافراد، وذلك لعدم قيام الدولة بواجباتها في مراقبة انتاج الثروة وتوزيعها، وقد يذكر البعض ان الاقتصاد التونسي قائم على القطاع الخاص في مجمله وان العودة الى هيمنة الدولة قد يفقد اقتصادنا قدراتها وهو رأي خاطئ لأن الباحث في »انجازات« القطاع الخاص يلاحظ بوضوح انها في الحقيقة انجازات الدولة مع فرق وحيد هو ان الارباح تذهب الى جيوب الخواص عوضا عن خزينة الدولة، فالحقيقة ان جل الاستثمارات تتمتع باعفاءات ضريبية من نوع ما يُسمّى تشجيع الاستثمار وهو ما يعني ان جزءا من المال العام يمنح في شكل »هدايا جبائية« (تقرير صندوق النقد الدولي لسنة 2005) لم تساهم في دفع الاستثمار الخاص وانما خدمت مصلحة الصناعات المصدرة دون سواها، وبما ان الحال كذلك (أموال الدولة تنفق لفائدة الخواص) فإنه من المنطقي ان تستعيد الدولة أموالها وان تستثمر بها لنفسها، ذلك ان المشاريع العمومية المنتجة لا تهدف الى الربح مما يجعل قدرتها التشغيلية أرفع بأضعاف من قدرات القطاع الخاص التشغيلية، وبذلك يكون تدخل الدولة في الحقيقة استرجاعًا لأموال الشعب واستثماره لفائدة. أما السبب الثاني لتدخل الدولة هو أن امكانيات الدولة دائما ما تكون دائما أكبر من امكانيات القطاع الخاص لذلك فإنها أكثر جرأة على المغامرة بإقامة مشاريع تنموية في المناطق الداخلية للبلاد دون حسابات الربح والخسارة كما أنها أكثر اطلاعا وإلماما من الخواص نظرا الى وفرة المعلومة لديها بما يمكنها من تحديد طبيعة المشاريع المتماشية مع الموارد الطبيعية والبشرية للمناطق الداخلية، فالمرحلة الآن تقتضي اعادة الاعتبار لدور الدولة الاستثماري أو بعبارة أخرى اعادة الاستثمارات لمموليها لأنه وبكل بساطة مادامت امكانات الاستثمار ممكنة فلم لا تقوم به الدولة عوضا عن دعم اصحاب رؤوس المال من الاموال العامة. تبقى الاشارة الى أن تدخل الدولة في المجال الاقتصادي لن يكون حرا بعيدا عن كل رقابة ذلك ان ما ستفرضه انتفاضة شعبنا المجيد من ديمقراطية ستسهل عملية الرقابة وتوفر شروط النزاهة والشفافية اللازمين لاصلاح الاقتصاد والارتقاء بأوضاع شعبنا الاجتماعية. وفي الأخير أرى من اللازم الاشارة الى أني من انصار تدخل الدولة في الوقت الراهن ليس لأن النموذج الاشتراكي لا يمثل الحل في نظري وليس لاعتبار انه نموذج ولى مع أزمنة غابرة وانما لأن القصور الذاتي لليسار التونسي جعله غير قادر على دفع الانتفاضة نحو الاقصى وتحقيق حلم العدالة الاجتماعية التامة.