لقد مرّت البلاد التونسية من 17 ديسمبر 2010 الى 14 جانفي 2011 بلحظة تاريخية رائعة تمثلت في ثورة شعبية حقيقية على منوال الثورة التي عرفتها فرنسا سنة 1789 . وكشفت هذه الاحداث جليا طبيعة النظام التونسي وما يتّسم به من محسوبية وفساد وقمع للحريات وحكم مطلق ودكتاتورية كما بيّنت بوضوح فشل سياسته الاقتصادية التي لا تقوم على الانتاج والتنمية بل على السمسرة والمحاباة والمحسوبية الناجمة عن الانتماء الى العائلة الحاكمة أو عن الالتساق بالحزب الحاكم ممّا زاد في تردّي الوضع الاجتماعي واستفحاله واصبحت من جراء ذلك الاوضاع قابلة للانفجار. وكانت مبادرة شاب تونسي محمد بوعزيزي، دفعهُ الاحباط واليأس الى الانتحار، بمثابة المفجّر لمنطقة سيدي بوزيد التي زادت سياسة التفاوت الجهوي في تردّي اوضاعها ثمّ انتقل الانفجار الى مناطق اخرى ليشمل تدريجيا جلّ الولايات التونسية وتحوّل في نهاية الامر الى ثورة شعبية عارمة اسفرت بعد اقل من اربعة اسابيع على الاطاحة برئيس الجمهورية زين العابدين بن علي واجباره على مغادرة البلاد، باعتباره رمزا للدكتاتورية والفساد وبالتالي المسؤول الرئيسي على ما آلت اليه اوضاع البلاد، وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدلّ على ان ارادة القوى الشعبية التي هي بمثابة الجنود المشاة للتاريخ، لا تقهر كما أكد ذلك شاعرنا أبو القاسم الشابي في قصديته الخالدة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر ولابدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر والآن وقد انكسر القيد ووقعت الاطاحة بالدكتاتور لابدّ للمرأ ان يتساءل عن البدائل السياسة للحفاظ على هذه المكاسب التاريخية النادرة هل يكون البديل الحزب الحاكم اي التجمع الدستوري الديمقراطي؟ مع العلم ان دوره قد تجسّد منذ »التغيير« في اقرار سياسة الرئيس بن علي والتطبيل لها وبالتالي في السكوت عن الفساد والقمع وكل ما وقع من تجاوزات. ثمّ انّ هذا الحزب الذي تغيب فيه الثقافة الديمقراطية لا يؤمن بالحوار بل تقوم ثقافته على اللغة الخشبية والتنويه بسياسة الرئيس مهما كانت والتأييد المطلق لنظامه كما ان طبيعة هياكله وكيفية تعيين قياداته تتناقض مع الممارسات الديمقراطية فجلّ مسؤوليه على المستويين الجهوي والوطني كالكتّاب العامين للجان التنسيق وأعضاء الديوان السياسي بما فيهم الكاتب العام للحزب يقع تعيينهم من طرف رئيس الجمهورية الذي هو في نفس الوقت رئيس الحزب كما يعيّن الرئيس نصف أعضاء اللجنة المركزية ويختار رجل اعضاده في الديوان السياسي والحكومة من بين المعيّنين وذلك على حساب النصف الاخر الذي يقع انتخابه من طرف مؤتمر الحزب كما ان التجمع الدستوري الديمقراطي وبالتالي رئيسه يزكّي المرشحين بمجلس النواب الذين يتمثل دورهم مبدئيا في مراقبة سياسته وتوجهاته. وهكذا تكون الطبقة الحاكمة مدينة لا للحزب بل للرئيس الذي عيّنا في الديوان السياسي والحكومة والمناصب العليا والذي تخوّله صلاحياته اعفاء كل واحد منها كلما ارتأى ذلك مما يجعل هذه الطبقة في خدمته لا تناقش أوامره بل تأتمر بها وتعمل للدعاية لها وترويجها لكي تحافظ على مناصبها. وهذا من شأنه تكريس الولاء الذي أصبح المصدر الاساسي للسلطة والوجاهة والنفوذ وذلك على حساب الكفاءة والخبرة والنزاهة. وبذلك يقع هدر الطاقات الفاعلة في البلاد وتعطيل مسيرتها التنموية اذ انّه كما ذكر فيلسوف التنوير مونتسكيو: »عندما يكون في بلاد ما الولاء للحاكم اكثر فائدة لصاحبه من القيام بواجبه، لا تقوم قائمة لهذه البلاد«. وقد قامت الثورة ضدّ كل هذه الاوضاع والممارسات ولم تستهدف الرئيس بن علي وحده بل كذلك الحزب الحاكم. وتجسّد هذا الاتجاه في مهاجمة مقرّات التجمع الدستوري الديمقراطي في العديد من الجهات واضرام النار فيها وذلك لتواطئه مع كل ما جدّ من تجاوزات وظلم وفساد فهل يمكن في مثل هذا الوضع لفصائل المعارضة التونسية التي كانت من تجاوزات نظام بن علي ان تثق في رموز الحزب الحاكم وتأخذ مسلّما وعودها حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد دون التناقض مع طموحات الجماهير الشعبيّة؟ ألم يعد الرئيس بن علي في آخر عهده بتوفير الشغل والحريات وفتح مجال الحوار وذلك لربح الوقت واجتياز الازمة؟ وهل تخلّى التجمّع الدستوري الديمقراطي عن ثقافة الاحتكار للسلطة والولاء المطلق لوليّ الامر والمناشدة ليصبح، بعصا سحريّة، حزب الحوار والديمقراطية؟ ثم انّ هدف كل ثورة يكمن في تغيير النظام برمّته أي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ولا يمكن ان يكون ذلك في ظلّ الحزب الحاكم الذي لفطته الجماهير الشعبيّة كما انّ الثورة التونسية بعثت آمالا كبيرة في صفوف الشعب التونسي وكذلك في بقيّة البلدان العربية التي اهتزّت لها واعتبرتها منارة يقتدى بها، فعلى النخب السياسية والنقابية التونسية المعارضة ان تتصرّف بكل مسؤولية تماشيا مع هذه الآمال حتّى لا تخذل كلّ هذه الشعوب إذ أن فشل هذه الثورة من شأنه بعث الاحباط واليأس لا في صفوف الشعب التونسي فحسب بل كذلك في العديد من الشعوب العربية الأخرى. وقد يتساءل المرء، والوضع على ماهو عليه، عن البدائل المطروحة أمام المعارضة السياسية والنقابية. إنّ البديل الذي يفرض نفسه في هذه الظروف الدقيقة يتمثل في اعتقادي في بعث جبهة شعبية تونسية تشمل الى جانب فصائل المعارضة والمجتمع المدني بجميع أطرافه الاتحاد العام التونسي للشغل. اذ انّ هذه المنظمة العريقة التي يعود تأسيسا الى بداية 1946، تمثل قوّة شعبية حقيقية وتشمل الى جانب العمّال بالساعد، العديد من الموظفين والمثقفين وقد ناضل في صفوفها مناضلون يسايرون كان لهم تأثير في مسارها بفضل ما قدّموه لها من دراسات وقع اعتمادها في المفاوضات مع الحكومة قصد تحسين وضع الشغالين ثم انّ الاتحاد العام التونسي للشغل لعب دورا لا يستهان به في الثورة العارمة التي عرفتها أخيرا البلاد التونسية وذلك على مستوى اتحاداته المحليّة والجهوية ونقاباته الأساسيّة وكذلك على مستوى هيأته الادارية ومكتبه التنفيذي الذي انحاز عبر بلاغاته الى صفوف الجماهير الثوريّة. وكانت مظاهرة 14 جانفي 2011 التي عجّلت في سقوط بن علي، قد انطلقت من ساحة محمد علي الحامي اي من مقرّ هذه المنظمة الشغيلة. ثم أن دور الاتحاد العام التونسي للشغل لم يقتصر تاريخيا على البعد الاجتماعي اي على الدفاع عن الحقوق الماديّة والمعنوية للشغالين بل شمل كذلك جانبا سياسيا اذ انخرط منذ أواخر اربعينيات القرن العشرين في النضال الوطني لتحرير البلاد من الاستعمار ودفع من أجل ذلك ثمنا باهظا أبرزه اغتيال قائده فرحات حشاد من طرف المنظمة الاستعمارية الارهابية المعروفة باليد الحمراء. كما تحالف الاتحاد غداة الاستقلال مع الحزب الحرّ الدستوري لبناء ادولة التونسية الفتية فكان طرفا ساسيا في الجبهة القوميّة التي خاضت في 25 مارس 1956 انتخابات المجلس التأسيسي التي فاز فيها الاتحاد ب 22 مقعد من جملة تسعين كما كان طرفا في أوّل حكومة بعثها الحبيب بورقيبة في شهر أفريل 1956 اي غداة الاستقلال والتي احتوت اربعة اعضاء من الاتحاد العام التونسي للشغل ثم ان البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي تبناه المؤتمر السادس للاتحاد في شهر سبتمبر 1956 كان ركيزة المشروع التنموي للبلاد التونسية طوال ستينات القرن العشرين كما ان مشروع اصلاح التعليم الذي بعثه وزيرالتربية محمود المسعدي سنة 1958 قد انبثق عن جامعة التعليم التابعة للاتحاد. ومثلما ساهم الاتحاد العام التونسي للشغل في المسار السياسي مع الحزب الحرّ الدستوري في اطار الجبهة القوميّة فبإمكانه في الظروف الحالية الانخراط في نفس المسار في اطار جبهة شعبية تقوم بإنجاز مشروع مجتمع كبديل لمشروع الحزب الحاكم وتخوض على ضوئه الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة، وتطالب بجميع الضمانات التي من شأنها خلق الاجواء المناسبة لهذا المسار الديمقراطي كتحوير المجلة الانتخابية حتى يتسنى لجميع الكفاءات الترشح لرئاسة الدولة او لعضوية مجلس النواب، وسنّ عفو تشريعي عام لاطلاق سراح جميع المساجين السياسيين، وتصحيح جميع التجاوزات التي تضرّرت منها مكوّنات المجتمع المدني وذلك باقرار الاحزاب السياسية غير المعترف بها، وتسوية اوضاع الجمعيات التي وقع قمعها كالرابطة التونسية لحقوق الانسان والاتحاد العام التونسي للطلبة وجمعية القضاة وجمعية الصحافيين وذلك بتمكينها من جمع مؤتمراتها لتسوية أوضاعها. وقد يخشى المرء أن تخدم البدائل الاخرى الحزب الحاكم الذي هو اليوم في حاجة أكيدة لربح الوقت عسى تنقشع السحب، لكي تعود، بعد فترة ربيع وجيزة، حليمة الى عاداتها القديمة، فتذهب عندئذ سدى طموحات جماهيرنا الشعبية والتضحيات التي بذلتها في سبيل ارساء مجتمع جديد يضمن حقوق المواطن وحريته وكرامته وتسود فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.