مثل تلك الرسالة الصوتية اللعينة التي يزفها لك صوت أنثوي رخيم من احدى شركات الهواتف الجوالة في بلادنا، تلك التي تعلمك ان رقم مخاطبكم خارج الخدمة ويتعذر الاتصال به، مثلها تمامًا أشبّهُ نخبنا المثقفة ومن يحملون لواء الفكر والثقافة والابداع في هذه البلاد... اشبههم بذلك بعد أن صاروا أشقاء لشعبهم في بلد آخر ولم نسمع لهم صوتا لا خافتا ولا عاليا امام ما يحدث في تونس... فما عدا الفاضل الجعايبي وجليلة بكار ورجاء بن عمار ونصر الدين السهيلي ولطفي العبدلي وتوفيق الجبالي وزينب فرحات وكمال التواتي وخالد البرصاوي وسوسن معالج ولبنى مليكة ومحمد علي النهدي وأنيسة داود وعمر الغدامسي والأسعد بن حسين والحبيب بالهادي وريم الحمروني ومحمد أمين بن سعد ومروان المؤدب وياسر الجرادي والكثير من طلبة المسرح والسينما والفنون الجميلة وبعض الاسماء الحرة الأخرى التي تغيب عني الآن، والتي ساهمت من موقعها شعرا ونثرا كعادل المعيزي والصغير أولاد أحمد وآدم فتحي الذين كتبوا قصائد نازفة وناطقة بجراح هذا الشعب المنتفض، ماعدا هؤلاء لم نر ولم نسمع صوتا محتجا أو مساندا أو رافضا أو حتى محلّل موضوعي، لِمَ يجر هذه الايام... مازالوا يشجوّن قهقهاتهم على جدران الحانات والمقاهي ويكتبون عن ديستوفسكي وعن رقصة التام تام وينشرون الأشعار على مقاعد الطائرات وابتسامات المضيفات ويتحدثون في التلفزات عن آخر ألبوماتهم الغنائية وعن الستكومات الجديدة... ومازلوا يسيلون الحبر مدرارا عن العراق وفلسطين والسودان وايران وهايتي وغيرهم من بقاع العالم... ويجفّ حبرهم عن الوجع التونسي الآن وهنا!!! مثقفونا ومبدعونا الذين نزحوا من الرقاب وحفوز وتالة ومكثر وسبيبة والسرس وقليبية وحمام الغزار ومدنين وحامة قابس وجبنيانة واستوطنوا بتونس العاصمة لتصيبهم تُخمة الموائد والولائم، لم نسمع لهم اي صوت ولا موقف مما يحدث في البلاد هذه الايام من احتجاجات شعبية عارمة... هذا المثقف المستكين اليوم والمختبئ في مغاور الصمت واللامبالاة هو ذاته الذي ينهش لحم هذا الشعب الأبيّ... المثقف والمبدع التونسي الذي يلهف مئات الملايين المتأتية من ضرائب المواطن بعنوان الدعم على أعماله، يستقيل اليوم من دوره الطلائعي ويتخلى عن مهمته في الوقوف الى جانب سنده الحقيقي ويتخلف عن ركب النضال، وما عدا بعض »الببغاوات« المدجّنة التي احترفت كتابة اللامعنى وامتهان التصفيق فإن صوت المثقف التونسي لم يرتفع أبدا مع بعض الاستثناءات القليلة التي تعد على اصابع اليد الواحدة... ولم يصدح اسم واحد من الاسماء المعروفة و »المشهورة« شعبيًّا لا في المسرح ولا في السينما ولا في الغناء ولا في الأدب ولا في الشعر بموقف واحد ازاء الاحداث التي تهزّ البلاد منذ اكثر من شهر... أين لطفي بوشناق وسنية مبارك والمنصف السويسي وعلي العبيدي والنوري بوزيد وعبد اللطيف بن عمار وعمار الخليفي والمنصف المزغني ورؤوف بن يغلان والامين النهدي ومحمود طرشونة وصلاح الدين بوجاه ودرصاف الحمداني وهشام رستم... أين هم من هذا الشعب الكريم؟ وحتى المنظمات والجمعيات الثقافية التي تعتبر مكوّنا من مكونات المجتمع المدني، لم تتجرأ على التعبير عن موقفها ورأيها مما يحدث في تونس...أين اتحاد الكتاب وبيت الشعر وبيت الحكمة والوكالة الوطنية للتراث و... و... شخصيا لا أستغرب هذا الموقف المتخاذل ذلك ان اغلب من »استولوا« على صفة »مثقف« في هذه البلاد هم بعيدون عن الثقافة الحقيقية نفخت فيهم وسائل الاعلام بُهتانا وجزافا فصدقوا الحكاية وانهالوا على هذا الشعب بوابل من تفاهاتهم وهاهم اليوم يلوذون بجحورهم كالجرذان والنعامات، وثبت بالمكشوف ان مكونات المجتمع المدني الحقيقية هي تلك الملتصقة بهموم الشعب والواقفة في محنته اما ما عداها فأعداد جوفاء لا تصلح الا للمفاخرة الزائفة. إن المرحلة اليوم تقتضي ان ينتفض المثقف التونسي ويخرج من جلباب الخوف والصمت واللامبالاة والانتهازية المفرطة وان يصدح برأيه ويعلن موقفه حتى لا يبقى »خارج الخدمة« وبالتالي خارج الوطن...