بقلم: مصطفى قوبعة لعلّ البعض من جماهير كرة القدم لا تزال تتذكر احدى اغاني «الفيراج» في الثمانينات وهي تشحذ عزائم لاعبي فريقها المفضل «إلعب يا «كليب» (او الترجي او...) الدزة كاينة» بما معناه قدموا لعبا جميلا ايها اللاعبون وانتصروا، فالاموال متوفرة. فإذا كان لاعب كرة القدم لما يشتم رائحة المال، «يخرج القرينتة اللي فيه» فأغلب الظن ان العكس يحصل لدى نوابنا المحترمين في المجلس التأسيسي. حاسة شم رائحة المال كانت سيدة الموقف داخل المجلس التأسيسي وفي أروقته خلال الاسبوع المنقضي وحسب التسلسل الزمني تجسمت بالخصوص على النحو التالي: تصريح لعضو بالنقابة الأساسية لاعوان وموظفي المجلس التأسيسي يشير فيه الى حصول اخلالات وتجاوزات في التصرف المالي لميزانية المجلس التأسيسي. تزامن تدخل النائب المحترم المنجي الرحوي يوم الجمعة الماضي في خصوص مشروع القانون الاساسي عدد 20 لسنة 2013 المنظم لعمل المجلس الوطني التأسيسي وخاصة الفصل 8 منه مع تصريح السيدة كريستين لاقارد رئيسة صندوق النقد الدولي من مكتبها بواشنطن بعد لقائها بوفد تونسي رسمي رفيع المستوى التي اعلنت فيه عن اخبار «مفرحة» لتونس مع نهاية هذا الاسبوع في اشارة الى قرب اعلان صندوق النقد الدولي موافقته الرسمية على منح بلادنا قرضا ائتمانيا بمبلغ كذا... ومن المفارقات، لم تقم الدنيا ولم تقعد داخل اسوار المجلس التأسيسي بعد تصريح عضو النقابة الاساسية لاعوان وموظفي المجلس التأسيسي، ولم تقم الدنيا ولم تقعد داخل أروقة المجلس التأسيسي بعد تصريح رئيسة صندوق النقد الدولي، وما الموجب وقد اشتم مجلسنا الموقر رائحة مال قادم الينا من وراء البحار جاء في الوقت المناسب ليحلحل مشروع قانون أساسي جاهز منذ مدة تعذر تسريع البحث فيه قبل انعاش الميزانية العامة للدولة بموارد جديدة تفك حالة الشح والضيق التي هي عليها، وما ان حصل اتفاق مبدئي على منح بلادنا هذا القرض الائتماني حتى تفتحت شهية البعض، وقد يكون المجلس التأسيسي أولهم، وما المانع اذن من «تحريك» هذا المشروع، أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ وعلى أية حال فإن هذا التزامن ليس بريئا بالمرة. من حق النائب المحترم المنجي الرحوي التشهير بمضمون مشروع القانون الاساسي المتعلق بتنظيم عمل المجلس الوطني التأسيسي وفق ما يمليه عليه ضميره حتى قبل ان يعرض المشروع على انظار الجلسة العامة وحتى قبل مناقشته من طرف لجنة التشريع العام، بل واكثر من هذا فإنني كمواطن أعيب على النائب المحترم المنجي الرحوي الاقتصار في تدخله هذا على اثارة مضمون الفصل 8 من مشروع القانون الاساسي والسهو عن اثارة مضمون الفصلين 13 و14 بالخصوص من نفس المشروع في صيغته المنشورة على الموقع الرسمي للمجلس الوطني التأسيسي وهما في تقديري المتواضع يتنافيان مع أبسط قواعد الحوكمة الرشيدة. لست ادري بالضبط من هو العبقري الذي صاغ الفصل 8 من هذا المشروع والذي يخول لرئيس المجلس التأسيسي بمجرد قرار ضبط مقدار منح وتعويضات واسنادها لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي حتى بمفعول رجعي لا يتجاوز تاريخ 15 نوفمبر 2011 اي تاريخ تنصيب اعضاء المجلس، فهذه الصيغة غير منسجمة مع روح «الدستور الصغير» ومع صلاحيات السلطة الترتيبية العامة المخولة لرئيس الحكومة، وعموما فإن إفراد المجلس الوطني التأسيسي بالاستقلالية المالية والادارية لا يعني إفراد رئيسه بسلطة ترتيبية في المجالين المالي والاداري هي من مشمولات رئيس الحكومة طالما ان ميزانية المجلس هي ميزانية ملحقة ترتيبيا بميزانية الدولة وطالما ان اعوان وموظفي المجلس هم أعوان وموظفو الدولة. ويفهم فقط من هذا الفصل 8 انه التفاف غير ذكي على رأي المحكمة الادارية في خصوص المنح والامتيازات الممنوحة لاعضاء المجلس التأسيسي. لم يخطئ النائب المنجي الرحوي في اثارة مشروعية الفصل 8 من عدمها وفي التنبيه الى الخلفيات التي تحف به، بل كان لزاما عليه بعد التشهير بالفصل الملغّم ان يتعرض كذلك الى الفصلين 13 و14 من مشروع القانون الاساسي طالما انهما يتنزلان في نفس السياق من الالتفاف ومن عدم الشفافية. فجيد جدا ان يحدث الفصل 13 لجنة المراقبة الادارية لمراقبة مشروعية القرارات الادارية التي يتخذها رئيس المجلس او مكتب المجلس او حتى الاطارات المكلفين بتسيير المصالح الادارية بالمجلس الوطني التأسيسي، ولكن من غير المقبول ان يتم الحد من عمل هذه اللجنة بحصر مجال تدخلها فقط في قرارات قابلة للرقابة يضبطها مكتب المجلس في قائمة في حين ان القرارات غير الواردة بالقائمة هي خارج مجال المراقبة، فما هكذا تكون المراقبة ولا مجال لتقييد أعمال الرقابة الادارية بأي شكل من الأشكال، فالرقابة اما ان تكون شاملة أو لا تكون. أما الفصل 14 من المشروع فقد احدث لجنة للمراقبة المالية وحصر مهمتها في وضع تقرير سنوي حول التصرف المالي للمجلس يعرض على مكتب المجلس الذي يحيله بدوره على انظار الجلسة العامة لا أكثر ولا أقل، اما في خصوص آمال تجاوزات او اخطاء تصرف محتملة قد يتضمنها التقرير فلا يهم كذلك طالما ان مجلسنا الموقر يعمل بمنطق «سيد نفسه» وبمعزل عن كل التشريعات المالية الجاري بها العمل، وطالما انه محصّن بموازين قواه اللامتكافئة وبتحالفاته الداخلية، وعندئذ لا خوف عليهم من أية مساءلة او محاسبة جدية ولا هم يحزنون. ورغم الطابع الجزئي الذي اكتساه تشهير النائب المحترم المنجي الرحوي بمضمون مشروع القانون الأساسي المتعلق بتنظيم عمل المجلس الوطني التأسيسي، فإن هذا الاخير لم يسلم من ردود فعل مستهجنة من قبل بعض الاعضاء الى حد وصفه ب «الكلب»، كان افضل رد عليها صدر عن النائب المحترم مراد العمدوني عن «حركة الشعب» في موقعه الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي، فذكر مدفوعا بحسه الشعري ببعض خصال «الكلب» ومنها اليقظة والوفاء تعبيرا منه عن تضامنه المطلق مع زميله المنجي الرحوي. وإذا كان في تعليق النائب المحترم محمد الحامدي رئيس الكتلة الديمقراطية تنصل من مداخلة زميله المنجي الرحوي فإنه في احسن الحالات يفسر بعدم تشاور النائب المنجي الرحوي مع بقية زملائه في الكتلة ومع رئيسها في خصوص مضمون مداخلته. أما تعليق النائب المحترم عصام الشابي عن «الحزب الجمهوري» فلا يفهم منه سوى رد الجميل لحركة «النهضة» لحسن تعامل انصارها مع آخر اجتماع شعبي للحزب الجمهوري في جربة ولعدم مبادرة هؤلاء الانصار مثلما جرت العادة بأية محاولة لافساد الاجتماع أو التشويش عليه. أما اكثر التعاليق سخافة فقد صدرت عن النائب المحترم ابراهيم القصاص أحد ابرز وجوه «الميركاتو السياسي» بانتقاله من «العريضة الشعبية» إلى «نداء تونس»، فلم يجد في تدخل زميله المنجي الرحوي سوى فرصة لابداء حسده على الوضع الاجتماعي لزميله، فالسيد ابراهيم القصاص لم يكلف نفسه عناء مقارنة سيرته الذاتية بالسيرة الذاتية لزميله، ولم يكلف نفسه عناء الالتفات يمينا وشمالا ليرى عشرات الآلاف من ابناء الشعب «الزوالي» كافحوا وكدّوا وتحدوا ظروف الفقر والخصاصة ليتألقوا في حياتهم الدراسية ثم في حياتهم المهنية بما ضمن لهم أفضل الاوضاع الاجتماعية عن جدارة واستحقاق، ومن حق هؤلاء اليوم ان يقطنوا في افضل الاحياء الراقية بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية ومن واجبهم كذلك ان يؤمنوا لأبنائهم ظروف عيش افضل من تلك التي نشأوا فيها. وفي المقابل فان اطرف رد فعل اولي حول هذا الموضوع جاء من طرف مجموعة من المواطنين من امام المجلس الوطني التأسيسي يوم السبت الماضي، فهؤلاء لم يكونوا من الوجوه المألوفة من انصار الموالاة أو من انصار المعارضة، هم مواطنون عاديون تجمعوا امام المجلس التأسيسي لالقاء قطع نقدية من فئة «بودورو» في عملية تحمل الكثير من المعاني ومن الرمزية، ولكن في النهاية ماهي العلاقة بين مجلسنا التأسيسي الموقر وبين القطع النقدية من فئة «البودورو»؟ الحكومة مسرورة بموافقة صندوق النقد الدولي المبدئية على منحها قرض الائتمان، ورئيسة صندوق النقد الدولي هي على درجة عالية من الفرحة وهي تزف الى التونسيين بشرى قرب الاعلان عن اخبار مفرحة لتونس، ونوابنا في المجلس التأسيسي بدورهم فرحون فآمالهم في منافع مالية جديدة اصبحت جدية، وفي المحصلة فرح الجميع الا هذا الشعب الكريم صاحب المصلحة الاولى والأخيرة، فيبدو انه تفطن الى انه اصبح اليوم بين فكّي كماشة، فك البنك الدولي وفك صندوق النقد الدولي، وانه اذا ثمة ثمن لهذا الوضع فانه الوحيد بأغنيائه وبفقرائه سيدفع الثمن.