تعد «الكتاتيب القرآنية» من أعرق مؤسسات التعليم الديني في مجتمعنا رغم تعرضها لشبه انقراض خلال العقود الأخيرة. فمن منا لا يأخذه الحنين الى ذلك العصر الجميل البريء أين حفظنا القرآن فوق «الحصير» مع «سيدي المدّب وعصاه الغليظة» حتى أن العديد من العائلات لازالت متمسكة بهذا النمط من التعليم الذي بات ينافس رياض الأطفال؟ وفي ظل عودة الكتاتيب مؤخرا، تباينت الآراء وتداخلت لدى العديد من الأولياء حول فاعلية «المدّب» في تكوين الأطفال وضرورة مسايرة العصر والتوجه نحو رياض الأطفال. «التونسية» تطرّقت إلى الموضوع فكان الريبورتاج التالي: «إن تطوير مناهج التدريس في «الكتّاب» واعتماد نمط الفصول المختلفة بين الفتيات والفتيان ساهم بشكل أساسي في تشجيع الأولياء على إدماج أبنائهم في «الكتاتيب» ذلك ما أكدته السيدة «سعاد» موظفة وأم لطفلين وقالت في هذا الإطار: «إن «الكتاب» أكثر إفادة للطفل وشخصيا تعلمت القرآن عند «سيدي المدّب» في جامع ببني خلاد وهو الطريق الذي اخترته لولديّ، فوجودهما عند «المدّب» ساهم في إفادتهما من نواح عديدة أهمها السلوك والأخلاق الحسنة كما أثر بصفة إيجابية على نتائجهما المدرسية مثالي في ذلك أن ابني من فرط حفظه للقرآن أصبحت له طاقة استيعاب كبرى للحفظ في جميع المواد، له لغة عربية سليمة، متميز في النحو والشكل وأخطاؤه قليلة في كتاباته مقابل ذلك فإن تجربتي مع «رياض الأطفال» كانت فاشلة ومؤلمة مع ابني الأصغر، فهم لم يعلموه سوى اللعب وأشياء أخرى ثانوية فائدتها العلمية فقيرة لذلك أنا أقول أن لا شيء قادر اليوم أن يعوض «سيدي المدّب». لا فرق بين الإثنين «محمد نجيب الفرجاوي» موظف من منطقة «فوشانة» أقرّ بأنه لا يرى فرقا بين «الكتّاب» ورياض الأطفال بما أن الاثنين يعلمان الصغار حفظ القرآن وآداب التعامل ولهما برامج تنشيطية ثرية وقال في هذا الإطار: «اخترت أن أعلم ابني في «روضة» بمنطقة فوشانة لأن برامجهم التعليمية والتنشيطية ثرية جدا ولها تأثير مباشر وإيجابي على سلوكه. وأضاف محدثنا: «إذا ما تحدثنا عن «سيدي المدّب وعصاه الطويلة» لن يكفينا المدح الجميل لشخصه فهو من علّمنا أفضل وأرقى الدروس والقيم كما أرى أن الكتّاب والروضة هما مكونان رئيسيان لتكوين الطفل مع المحافظة على براءته. وإذا ما حاولت مجموعات معينة قتل تلك البراءة، فنحن في غنى عنهم ولا نريد منهم أن يعلموا أبناءنا. وما أراه مهما اليوم هو أن يتعلم ابني القرآن وأن يعيش طفولة عادية ثرية بالأنشطة الترفيهية والأناشيد الطفولية وغيرها من البرامج التنشيطية برياض الأطفال». أخاف من الفكر الجهادي إن البرامج الشاملة التي سخرت لتطوير مناهج التدريس وتحديث بنية «الكتاتيب» مؤخرا لم تبعث الطمأنة في قلوب مجموعة من الأولياء. ففي ظل انتشار الفكر السلفي الجهادي أصبح الأولياء متخوفين من فحوى الدروس التي يتلقاها أبناؤهم في «الكتّاب» وهو ما أكدته السيدة «يمينة» وهي موظفة وأم لطفلين التي قالت أن «سيدي المدّب» و«العصا الغليظة» هما مرحلة يصعب محوها من الذاكرة وان الفضل يعود له لأنه علمها القرآن والأخلاق الحميدة وأصول الدين والاحترام والانضباط حسب تعبيرها. وأضافت: «أنا اليوم أم لطفلين واخترت أن ألحقهما بروضة أطفال بحي الغزالة أين أقطن. ففي ظل انتشار الفكر السلفي الجهادي، أصبحت متخوّفة من تأثير ذلك على نفسيتهما. فأن تحدث طفلا عن عذاب القبر أو عقاب تارك الصلاة وجهنم هو أمر كفيل بأن يجعله يعيش كوابيس مرعبة. كنت أتمنى لو حافظت الكتاتيب على نفس التقاليد ونفس الطرق التي علموني بها. أما رياض الأطفال فبرامجها ثرية ومنظمة فهم يعلمونهم القرآن خلال الفترة الصباحية ويخصصون الفترة المسائية لتعلم الخط والرسم والحفظ وغير ذلك. إن البيئة السليمة هي الكفيلة بصناعة الأبناء، وحضور الرقابة الأبوية واجبة في هذه المرحلة الحساسة». تدريس القرآن بطرق علمية وفي إقامة خاصة بحي التحرير نزلنا ضيوفا على الشيخ «لطفي العماري»، امام خمس في جامع ببجاوة ويحضر كل يوم أحد لتدريس الأطفال. كان بصدد ترتيل آيات من القرآن وتعليمه لأطفال لم تتجاوز أعمارهم 4 سنوات. طريقته في التدريس مالت الى نظام الكتاتيب التقليدي رغم غياب «الحصيرة» والعصا الغليظة ورغم حداثة الفضاء الذي وجدوا فيه. كان الشيخ «لطفي» يتلو القرآن بصوت مرتفع ثم يفسح المجال أمام الأطفال لترديد الجمل. وحول تباين الآراء حول ما إذا كان دور الكتاب حاسما في تكوين أطفال أبرياء، قال شيخنا: «يستند برنامج التدريس الجديد في «الكتاب» على الجمع بين حفظ القرآن والأحاديث النبوية وتعليم العبادات والتربية على الآداب الاسلامية وبين مواد أخرى ذات طابع مدني. ومع تطور العلم وجب أن ندرس القرآن بطرق علمية حسب بيداغوجية الطفل، مع ضرورة انشاء خيط اتصال مع التلميذ وهو ما أطلق عليه اسم «خيط الود والمحبة». وأضاف محدثنا: «هؤلاء الصغار هم أمانة وجب المحافظة عليها وهم على استعداد أن يتعلموا منك كل شيء بحكم براءتهم، لذلك فكل ما من شأنه أن يعلمهم الاعتدال فهو مرحب به وكل من يدعو الى التطرف والى تسمين هذه العقول البريئة، فهو خائن للأمانة». وفي سياق متّصل بين «الشيخ لطفي» أن المبتغى الأول من حفظ القرآن هو ابعاد الأطفال عن التطرف والتميّع حيث قال: «أنا أدرّس الأحاديث النبوية التي تدعونا الى الأخلاق الحميدة والتحاور في ما بيننا، بمعنىأصح القيم والأصول التي تبني الانسان من طاعة الوالدين والاحسان للآخر وكيفية آداب الأكل، ومادون هذا فهو هدم ودمار». وعن محاولة البعض من العناصر المتطرفة التأثير على الأطفال وتعليمهم الجهاد، قال شيخنا: «إن لغة «السيف» غير موجودة هي لغة أكل عليها الدهر وشرب، وأنا أريد أن أوضح شيئا وهو أن السيف بامكانه قتل انسان واحد لكن «اللسان» كفيل بقتل المئات، فما بالك بطفل صغير يتأثر بكل كلمة وحرف وحركة؟». علم النفس على الخط لقد سبق أن حذر مختصون في علم النفس من انتشار المدارس القرآنية وما يتم تلقينه للأطفال من أفكار تسمّم براءتهم. أما عن «الكتاب» أو «سيدي المدب» فقد حدثنا الدكتور «عماد الرقيق»، أخصائي علم نفس قائلا: «جميعنا كنّا من رواد «المدب» أين تعلمنا الأخلاق الحميدة وأصول الدين، كما لم تخل برامجنا من اللعب والتنشيط وحل المسائل الحسابية وحفظ الحروف الأبجدية فإن حافظت «الكتاتيب» على نفس التقاليد مع تغير بسيط في المناهج والبرامج بما يجعلها تستجيب لروح العصر فهذا يعد أمرا مقبولا، لكن أن تتحول الكتاتيب الى منابر للحديث عن الجهاد وعذاب القبر وغيره، فهذا مرفوض تماما لأنه يؤثر وبصفة مباشرة على نفسية الطفل ويصبح سجين الكوابيس، فمن الطبيعي أن يتعلم الطفل وهو يلعب، أما أن نضعه في دوامة «جهنم وعذاب القبر» فهذا يعد كارثيا وغير مقبول بالمرة». وعموما فقد تحولت الكتاتيب في عصرنا اليوم الى مؤسسات تعليمية لها مناهجها وبرامجها العصرية، حيث تغيرت المناهج والفضاءات وأصبح الشيوخ يدرّسون برامج مختلفة. تغييرات موضوعية تواكب روح العصر، الا أنها لم تخرج عن المبادئ الأساسية المتمثلة في تعليم القرآن والسيرة النبوية الشريفة وهو ما دفع بالعديد من الأولياء الى الاقبال عليها وتفضيلها على المحاضن ورياض الأطفال لأنها في نظرهم أكثر جدوى وفاعلية.