اختلف المحللون في تقدير الوضع السوري قبل اندلاع التحركات الشعبية في عدد من المدن الشامية، وذهب الاعتقاد إلى أن الشعب السوري مسالم ومهادن ولن يثور على النظام، وكان جليا أن النخبة المثقفة "الخارجة من بيت الطاعة" المتمردة على البعث ستواجه صعوبات في مسعاها لإشعال فتيل الثورة... وبدا واضحا أن النظام السوري لم يكن مطمئنا لهروب "بن علي"، وتنحي "مبارك" والتحركات الشعبية الكبيرة في ليبيا والبحرين واليمن فأمر ببعث قناة سورية إخبارية شعارها "الوقائع كما وقعت والأحداث كما حدثت" في إشارة إلى تلاعب بقية التلفزات بالأخبار لتحريك الشارع العربي الغاضب بطبعه، ولكن كل هذه الإجراءات المبكرة والاستباقية لم تنجح في السيطرة على الشعب السوري الذي تململ وقرر الخروج إلى الشارع للإطاحة بالنظام... فقد تخلص السوريون من عقدة الخوف لينتفضوا ويقولوا "لا" في وجه "بشار الأسد" ووالده أيضا الذي كان "داهية" ولاعبا كبيرا بين ساسة الشرق الأوسط لكنه حكم شعبه بآلة قمعية حادة ظلت آثارها واضحة في الجسد السوري... تورم الجسد ودخل غرفة الإنعاش ولكنه لم يمت، وعندما تفتحت عيونه للحياة من جديد قلب الطاولة على تاريخ "حافظ الأسد" فحطم تماثيله في قلب المدن السورية... حاول "بشار الأسد" أن يلملم بقاياه وكان يعتقد أن تحركه مبكرا باتخاذ عدد من الإجراءات في خطابه أمام مجلس الشعب الذي استمات أعضاؤه في التصفيق والهتاف للزعيم ابن الزعيم الخالد وشقيق "الباسل"... قطعت خطابه أصوات الموالين له بشعارات التأييد تماما مثلما حدث عند تعيينه رئيسا لسوريا بعد وفاة والده وتنقيح الدستور في نصف ساعة بتخفيض سن الترشح للرئاسة حتى يلائم سن طبيب العيون العائد لتوه من عاصمة الضباب... عندما كانت الأنظمة العربية متشابهة حد التطابق، وحل الدكتور "بشار الأسد" ليحكم بلده تنبأ الكثيرون خيرا به، فهو الدكتور الثلاثيني الهادىء، يوحي مظهره بالرصانة ويتدفق خطابه الثوري بالطموحات والرغبة في الإصلاح ... اعتقد البعض أن "ما يراه الشاب وهو واقف لا يراه الشيخ وهو قاعد.." وأن ربيع دمشق آت لا ريب فيه على يدي"بشار" ولكن نسي الكل أن ماكينة القمع العربية تأكل الأخضر واليابس ولا تترك المجال لرياح الخصب حتى تبلغ السفينة بر الأمان... ولذلك، ما إن سرت موجة من الغضب في الشارع السوري، حتى خرج "بشار الأسد" ليعيد علينا نظرية الأنظمة العربية الدكتاتورية... نظرية المؤامرة... تحدث "بشار الأسد" في خطابه الأول عن مؤامرة تحاك ضد بلده للقضاء على وجوده كمركز ثقل في القرارات العربية، وأشار إلى دور بعض التلفزات العربية في هذه المؤامرة... خطاب آخر طوييييييل (بمعنى طويل جدا) من رئيس شاب لم يتعلم من أخطاء سابقيه وحاول احتواء الغضب بإشارات جاهزة استنجد بها قبله "بن علي" و"مبارك" و"القذافي" فكانت النتيجة كما نعرفها جميعا... مازال الحكام العرب يمارسون لعبة الضحك على الذقون، ويتوارثون ردود الفعل قليلة الحيلة، غير معترفين بأن الشارع العربي صار رقما صعبا في المعادلة السياسية، ولم يعد "القطيع" الذي تفرقه العصا...ويجمعه المزمار...