إن المشكل من القرآن هو مبحث في الدراسات القرآنية تفطن إليه العلماء القدامى وألفوا فيه مؤلفات عدة كما أن المحدثين من علماء ومفكرين معاصرين قد اعتنوا هم كذلك بهذا الصنف من الدراسات فظهرت في العصر الحديث كتب عدة تناولت الآيات التي تثير إشكالا في الفهم لدى المتعامل مع كتاب الله والتي يعتقد في كونها متناقضة أو متضاربة أو تحتاج إلى تأويل لكونها قد تحدث اللبس والغموض في الفهم والصعوبة في إجلاء المعنى . وهذا النوع من القرآن هو ليس من نوع المتشابه الذي ذكره الله في سورة آل عمران في قوله تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم .. " فالمشكل من الآيات القرآنية ليس هو المتشابه من القرآن الذي خفي معناه وعسر فهمه إلا بتأويل من ذوي العلم والمعرفة الراسخين في العلم والذي يحتمل أكثر من معنى وإنما المشكل من القرآن هو آيات قراءتها الظاهرية والحرفية قد تثير الغموض والتناقض الأمر الذي يحتاج معه إلى إزالة الاشكال باستعمال أداة من أدوات الفهم كالناسخ والمنسوخ أو تطبيق قاعدة تقييد المطلق وتخصيص العام ومن الأمثلة على هذا المشكل من القرآن قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون " البقرة / 184. فهذه الآية تبدأ بخطاب عام يقر مبدأ عاما وحكما عاما موجها إلى عموم المؤمنين وكافة المسلمين يخبرهم فيه بأن الصوم فريضة عليهم في مدة محددة وزمن معلوم ثم يتنقل الخطاب الإلهي إلى الحديث عن فئة من هؤلاء المؤمنين استثنوا من هذا المبدأ العام وموقعهم خارج هذا الحكم وهذه الفئة التي تتمتع برخصة في الإفطار في رمضان هي فئة المرضى والمسافرين. إلى حد الآن الخطاب الالهي واضح ولا لبس فيه ولا يثير إشكالا غير أن المقطع الذي يأتي بعد ما سبق من حديث قد أحدث اللبس وأوقع الإشكال في الفهم وهو قوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " فهل هذا المقطع معطوف على ما قبله من حديث فتكون الفئة التي تقدم الفدية على عدم صومها رغم رخصتها في الإفطار هي فئة المسافرين والمرضى أم أن العطف هنا يشمل المخاطبين في أول الآية وهم عموم المسلمين ليكون الخطاب هنا معني به فئة الصائمين القادرين عليه وبالتالي يكون المعنى أن من يطيق الصوم مطلقا والقادرين عليه بإمكانهم الافطار مقابل تقديم فدية للمساكين ؟ فالمشكل في هذه الآية هو معرفة هل أن الاستثناء من واجب الصوم في الخطاب الإلهي معني به عموم المسلمين أم أن الخطاب هنا موجه إلى الفئة التي رخص لها الله بالإفطار بسبب مرضها أو سفرها؟ لقد صور الإمام البغوي في تفسيره هذه الحيرة ونقل اختلاف العلماء في فهم هذه الآية المشكل حيث أنهم لم يجدوا من مخرج لهذه الحيرة في الفهم إلا باللجوء إلى استعمال آلية الناسخ والمنسوخ معتبرين أن قوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه ... " منسوخة بما جاء بعدها من القرآن في قوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " البقرة / 185 بمعنى أن من ذهب إلى هذا الفهم قد اعتبر أن المخاطب بالإفطار مقابل تسديد فدية هم عموم المسلمين الذين توجه إليهم القرآن بالخطاب في أول الآية بوجوب الصيام " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " وبهذا الفهم يكون المعني بتقديم الفدية هو المسلم العادي الذي يطيق الصوم وبإمكانه أن يفطر مع قدرته عليه مقابل تسديد فدية مقررة للمساكين. ولكن إلى جانب هذا الفهم هناك رأي آخر ذهب إليه قتادة من التابعين يقول بأن الآية خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه فرخص له الله في أن يفطر ويفدي عن أيام فطره ثم نسخ الحكم. أما الحسن من التابعين فقال هي للمريض الذي يستطيع الصوم فخير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ثم نسخ الحكم بقوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " واختار الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب حلا آخر لهذا الإشكال الذي تثيره الآية وهو أن الفدية مقابل الإفطار معني بها المريض والمسافر الذين يطيقان الصوم على اعتبار وأن هناك من هذه الفئة من يطيق الصوم ويمكن أن تتحمل المرض وبالتالي يمكنها الصوم رغم أن الله قد رخص لأصحابها بالإفطار وفي هذه الحالة يكون المريض والمسافر مخيرين بين أن يصوما أو أن يفطرا مع تقديم فدية ثم نسخ حكم التخيير بالنسبة للمطيق من المسافر والمريض وأوجب عليهما الصوم أي أن النسخ في هذه الآية حسب الإمام الرازي يخص حكم التخيير بالنسبة إلى المريض والمسافر القادرين على الصوم ليصبح الحكم المتعلق بالآية هو وجوب الصوم الذي يسري على المريض والمسافر المطيق للمرض والقادر على الصوم . هذا جانب من الحيرة التي نجدها في كتب تفسير القدامى ولكن ألا يمكن فهم هذه الآية من سورة البقرة بطريقة أخرى وكيفية مختلفة من دون استعمال لآلية الناسخ والمنسوخ ليكون الفهم الذي نقترحه لإزالة الإشكال هو أن القرآن قد أقر مبدءا عاما وأقر استثناء له فالمبدأ العام هو وجوب الصيام لجميع المسلمين القادرين عليه والاستثناء هو لفئة من المؤمنين في وضعية المرض الشديد أو السفر البعيد الجالب للمشقة ولكن داخل هذا الاستثناء هناك من يطيق الصوم ويقدر عليه رغم المرض والسفر يتولى تقديره الفرد بنفسه أو بالاستعانة بطبيب من أهل الاختصاص فهذه الفئة قد سمح الله لها بالصوم رغم الرخصة بالإفطار التي يتمتعون بها وهذا هو المقصد من قوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ... وإن تصوموا خير ا لكم " وبالتالي فإن العطف في هذا المقطع من الآية يخص المقطع الذي سبقه وهو قوله تعالى " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " وبعد بيان هذه الوضعيات يحسم القرآن المسألة بالنسبة إلى المخاطبين بخطاب وجوب الصيام ( وهم القادرون على الصيام بدءا والقادرون عليه رغم مرضهم وحالة سفرهم ) بقوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وبهذا الفهم وهذه القراءة لهذه الآية في كليتها وباعتبارها وحدة متكاملة يحكمها بيان واحد متناسق يزول المشكل وينتهي الغموض وتنتهي الحيرة من دون حاجة إلى استعمال آلية النسخ لعدم وجود ما يدل عليه في النص القرآني. فما رأي الشيخ السلامي فيما ذهبت إليه ؟