بقلم: البحري العرفاوي -لا يختلف المراقبون في حقيقة أن البلاد بحاجة إلى مبادرة وطنية لمعالجة حالة «التسمم السياسي» وما قد يترتب عنها مستقبلا من إضرار بالدولة بما هي مؤسسات وقوانين وأجهزة وقيم ... مبادرة لا يستفيد منها السياسيون لوحدهم وإنما يستفيد منها وبالدرجة الأولى التونسيون حين يشعرون بالأمان وحين يخرجون من حالة الضغط الإعلامي والسياسي ومن كوابيس الفوضى والجريمة والوعيد السياسي. مبادرة تعيد الثقة بين الفرقاء وتؤسس علاقاتهم على مبدإ المنافسة وليس العداوة وعلى قاعدة التدافع وليس التنافي. ولكن قبل أن نصبح محتاجين إلى مبادرة كان الكثيرون ينتظرون أن تكون «شخصية» لها تاريخها النضالي ولها صدقيتها وهدوؤها ورجاحة عقلها ولها مرجعيتها الإيمانية المؤسسة على التعارف والتراحم والتسامح أن تكون هي الشخصية «الجامعة» والأكبرمن الأحزاب ومن الحسابات الحزبية الضيقة ومن تفاصيل ودقائق الخلافات... منذ بداية «الثورة» سمعت أصدقاء من تيارات مختلفة يعبرون عن أملهم في أن تكون هذه الشخصية مُجَمّعة لكل التونسيين على قاعدة المواطنة والتوافق والتعايش دون النيل من حقيقة الاختلاف والتنافس المدنيين . إن «الدولة» أكبرمن الأحزاب والحركات وإن «المستقبل» أرحب من المناصب ... وإن «الإنسان» في كرامته وحريته أقدس من كل الأحزاب والحركات مجتمعة... تلك الأحزاب ليست أهدافا بذاتها إنما هي وسائل لتحقيق كرامة الإنسان وصيانة إنسانيته«المقدسة» وتحقيق العدالة الاجتماعية ومنع المظالم وحماية حرية التعبيروالإبداع والمعتقد وتمكين الجهات الأقل حظا من نصيبها في الثروات الوطنية وجبر أضرارمن كانوا وقود الفتن السياسية لعقود من «زمن الغصّة الوطنية». إن «الثورة» ليست حدثا فُجائيا ولا حَفل عَشاء ندعوإليه من نحب ونقصي منه من لا نحب... «الثورة» رؤية وقيم وذهاب كادح إلى مستقبل أرقى وأنقى وهي بهذا المعنى مشروع مفتوح لكل التونسيين لا نميزبينهم بالنوايا وإنما بالأفعال وبما يُقدمونه للوطن والمواطنين... مشروع «الثورة« لا يحتاجُ إلى حراسة رسمية ولا إلى تحصين قانوني وإنما يحتاج إلى وعي وثقافة وجُهد عملي من أجل مستقبل مختلف لفائدة تونس والتونسيين. إن الحرص على سن قوانين لتحصين "الثورة" إنما يُعبرعن تصوّر قاصر للثورة وإنما يُعبرعن رغبة سياسية في تفريغ الساحة السياسية قَدْرالإمكان من الخصوم والمنافسين وهوما يعتبر شعورا بالضعف وبعدم الثقة بالنفس وبالبرامج والمشاريع وبالجماهير. ثمة فرق بين قانون العدالة الانتقالية الذي يقتضي إعادة الحقوق لأصحابها ومحاسبة الفاسدين بناءً على ملفات ومُعطيات حقيقية وبين «قانون تحصين الثورة» الذي لا يُفهم منه سوى تسليط عقوبة جماعية تحت عنوان التجريم السياسي وهوما يذكّرالتونسيين بقانون الإرهاب أو بقانون الأحزاب والقوانين الانتخابية التي كانت تُفصّل على مقاس النظام الحاكم بما يمكنه من البقاء في الحكم وبما يسمح بإقصاء خصومه بحِيَل قانونية. إن «قانون تحصين الثورة» لن يكون ولم يكن إلا وقودا للفتنة والأحقاد والنوازع الانتقامية. إن عشرات الآلاف من التونسيين المهدّدين بهذا القانون لن يُسلموا رقابهم بسهولة بل ولن تقبل ذرياتهم بإهانة آبائهم وأمهاتهم...إن الآلاف من الشباب المندفع إلى ساحات الاحتجاج ضدّ الحكومة الشرعية ليسوا من ذوي الإيديولوجيات المعادية للسلطة الحالية وإنما هم من ذوي التخوفات على آبائهم وأمهاتهم يرونهم مهدّدين بالإهانة والإذلال... إن الثورات لا تُحصنها القوانين ولا الأجهزة وإنما تحصنها الأفكارالتحررية والوعي الثوري والقيم الإنسانية ومشاريع الحياة... إن مثل تلك القوانين لا يُلجأ إليها عادة لتحصين الثورة وإنما في الحقيقة لتحصين «السلطة» مع أن أي سلطة لم تقدرعلى تحصين نفسها بالقوانين حين فقد ثقة الناس بها وحين عجزت عن احتلال عقولهم وقلوبهم... أنا واثق من أن الذين يرفعون اليوم شعارات قُصْوية إقصائية ثورجية إنما هم الأطراف الضعاف سواء في الحكم أوفي حواشي الحكم وإنهم إذ يفعلون ذلك فإنما رغبة في أن يكونوا «كبارا» إعلاميا وهم يعرفون بأن مثل شعاراتهم تلك لن تجرّ عليهم وبالا وإنما ستجرّه على الطرف الأكبرحين ينقلب المشهد السياسي ضدّه وحين يُصبح يُنظرإليه على أنه خزّان أحقاد تصفوية وأنه مشروع عقابي يجب التحشّد للتصدي إليه وهوما يحصل الآن فعلا. ستظل كل المبادرات مجرّد فخاخ سياسية ومجرد حيل لخدمة طرف أو للإيقاع بطرف آخرما لم تتأسس على مبدإ "الدولة" وما لم تنبع من جوهر «إنساني» نقي ومن روحانية تحررية صافية... «المبادرات» يمكن أن تنقلب نجاحاتها إلى كوارث حين تعطي شرف النجاح لأطراف ليست جديرة بأن تكون عنوانا للاحتكام السياسي وليست مؤتمنة على «الحيادية» والموضوعية وحين تُكسب الأطرافَ تلك شرفا قد يستعملونه في التحول إلى «قوة إكراه» سياسي ضدّ أطراف معينة في سياق الترتيبات والتحالفات والمصالح وقد تتخطف بتلك النجاحات «شرعية» تستبدل بها الشرعية الشعبية . سنحتاج وقتا آخرلكي "يعالج" السياسيون أنفسهم من الغرائزية السياسية ومن النزعة الغنائمية ومن شهوات التحكم ومن عقد الغلبة ...سنحتاج وقتا آخرحتى يتعافى السياسيون من الأنانية والحقد والتكبر ...سنحتاج وقتا آخرلتلقي المزيد من الصدمات والخيبات والإنكسارات حتى يتواضع المتكبرون بسلطة أو بنظرية أو برأسمال... سنحتاج وقتا آخر ننتهي بعده إلى قاعدة كنتُ ختمتُ بها مقالا بجريدة الموقف في جانفي 2005 «من كان مستعجلا على سلطة فإنها زائلة ومن كان حريصا على الوطن فإنه الباقي» . كنتُ أتمنى أن تكون "أنت" خيمة التونسيين جميعا ...آلمني أن أراك تُدعى كما الآخرين لجلسة «صُلحية» وكأنك في خصومات لا تليق بمثلك.