دون محاولة التفصي من المسؤولية أو التهرب من اتخاذ موقف صريح وواضح من هذا الطرف السياسي أو النقابي أو ذاك، يمكن القول بكل تجرد وموضوعية إن جميع أطراف الطيف الفاعل في بلادنا بمختلف مكوناته، أي الاحزاب الحاكمة والمعارضة والتشكيلات النقابية وهياكل المجتمع المدني، تتحمّل جزءا من وضع الأزمة الخانقة الحالي الذي نعيشه، والذي سيفتح الباب حتما، اذا تواصل وتفاقم، أمام قمقم أسوإ الاحتمالات. فبعد سنتين من الثورة، يبدو تحقيق أهم استحقاقاتها حلما بعيد المنال، بل إننا لم نضع بعد ساقا واحدة في الطريق المؤدية الى أغلبها. وحتى ما تحقق منها، كحرية التعبير والتنظم، تبدو اليوم مهددة، وامكانية التراجع عنها لا تبدو مستحيلة. فالتجاذبات، والشد والجذب ومحاولات ليّ الذراع بين جميع الاطراف المتناحرة، هي خبزنا اليومي منذ أن باح صندوق الاقتراع بأسراره يوم 23 أكتوبر 2011، وهو وضع مرضي لا يسمح اطلاقا لا بوضع الأسس السليمة لمؤسسات الدولة الديمقراطية التي نصبو اليها، ولا بتجاوز تركة الماضي الثقيلة، ولا بتحريك عجلة الاقتصاد المنهك، مما من شأنه أن يسمح ببدء معالجة معضلة الفقر والتهميش والبطالة المعتبرة، الى جانب الحرية في مقدمة مطالب الثورة. فمن المؤسف أن «تحقيق أهداف الثورة» تحول على مر الايام الى شعار يرفعه الجميع: الماسكون بزمام السلطة والمعارضة والشارع، دون الغوص حقا في كنهه ودون نقاش حول آليات تحقيقه، وخصوصا حول واجبات ومسؤوليات كل طرف في ذلك، فاستحقاقات الثورة متمثلة أساسا في محاسبة الفاسدين، ومحاربة الفقر والبطالة وارساء الحرية والديمقراطية. فقد كان من الممكن بل من المتحتم الاتفاق عبر النقاش والحوار بين جميع الاطراف حول التمشي الواجب توخيه لتحقيق كل واحد منها، أي التوافق حول أرضية مشتركة ومرحلية مدروسة لبلوغها في أقرب الآجال، مع تحديد مساهمة كل طرف بوضوح ودقة. وللأسف فإن ما حدث هو نقيض ذلك تماما، مما يمثل حقا «خيانة موصوفة» لأهداف الثورة، يتحمل كل طرف قسما من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية فيها. فالمعارك ال»دون كيشوتية» أضعفت هيبة الدولة الى حد بعيد وهرسلت سلطتها وآذتها الى أبعد الحدود، وكان من نتائجها أن استشرى الفساد بشهادة المنظمات الدولية المتخصصة في البلاد، بلاد مثّل فيها «فساد» النظام البائد أقوى وقود للثورة. وكان من نتائجها أيضا أن ارتفع مستوى المعيشة بنسق غير مسبوق اطلاقا في تاريخنا المعاصر، أي منذ الاستقلال بفعل الانفلاتات في جميع الميادين، نظرا لضعف المراقبة وتفاقم التهريب والاحتكار، وأيضا بفعل الزيادات المتتالية في الأجور، مما ألحق ضررا فادحا بالمقدرة الشرائية للطبقات الدنيا للمجتمع، أي بالفقراء الذين ألهبوا نار الثورة ومثّلوا طلائعها في بداياتها، ومما يؤشر بتزايد أعدادهم ونسبهم كل يوم أكثر. إنها لحلقة جهنمية خطيرة لن تبطئ نتائجها المدمرة لو تواصلت أكثر. ورغم هذه الصورة القاتمة إلا أنها واقعية وموضوعية فإننا لا نعتقد أن الأوان قد فات لتدارك أوضاعنا، بل إن قلب اتجاهها، اذا راجعت جميع الاطراف بلا استثناء حسابها واستراتيجيتها، يبقى ممكنا حاليا، ولكن الى متى؟