إنّ المتأمّلَ لوضع الحركة الإسلاميّة التي نَعُدهَا رساليَّةًً يلحظ أنها أَصبحت منشغلةً بالعمل السياسي من خلال تشكيل حزب وحريصةً على المراكز والمواقع والامتيازات ناسيةًً أو متناسيةًً واجب الدعوة في أسلمة المجتمع وكسب رضا الله أولا ثم طاعة الناس. فهدف حركة النهضةِ أو «حزب النهضة» أصبح فيما يبدو الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، في حين أنها انتخبت على أساس رسالتها المعلنة والمتمثلة في تغيير للمجتمع يتجاوز كثيرا حدود السلطة ومغرياتها الدنيوية. فانخراط أبنائها أو بعضِهم في لعبة السلطة يفسد عليهم مشروعهم ويفتنهم بالمناصب والتنافس فيها، الأمر الذي يصرفهم عن أهدافهم الدعوية والتربوية وقد يوصلهم إلى مرحلة الاقتتال لا قدر الله. ما نعرفه من سُنَّةِ الأنبياء أن إقامة الدولة تبدأ من الأسفل أفقيا عبر الدعوة وخدمة الناس والاقتراب منهم وان يكون الداعيةُ مثالاً في الزهد والتواضع والإيثار فيكون أولَّ من يجوع وآخرَ من يشبع يعيش لغيره قبل نفسه والمقربين. فالمشروع الإصلاحي رسالةٌٌ ربانيةٌٌ وأخلاقيةٌٌ قبل أن تكون ممارسةًً للسلطة. إن الإلحاحَ على تكريس فكرة التوافق المصطَنَع حول إدارة الحكم والنظر للناس من قمة الهرم في ظل استقطاب إيديولوجي وسياسي، عمَّق الفجوةَ بين مكونات المجتمعِ، في مرحلةٍ دقيقةٍ يشكل فيها الحسم والحزم رافعة لإعادة الاستقرار لدفع مسيرة التنمية والتغيير. ليس من باب التحريض أو الوقيعة بين قيادات النهضة إن قلنا إن أطرافًا من قيادتها اشتهرت بالشد للوراء وتعطيل أي محاولة لفك الارتباط بين الحزب والدولة الأمر الذي عانينا منه طويلا- وتحول دون اعتماد عنصرِ الكفاءة والإخلاص والوطنيّة لا الحسابات والولاءات الحزبية التي أصابت المصلحة العامة في مقتلها وَعَاقَتْ أيَّ تقدم في الاتجاه الصحيح. في النهضةِ تيار يمثله الجيلُ القديمُ يشدُّ للوراء خوفًا من مصيره في ظل المصارحةِ والإقرار بالفشلِ والتقصير. ولكن هناك تيارات أخرى تتعدد فيها أصوات يجتمعُ أغلبُها على فكرةِ التقييمِ الذاتي المُجَرَّدِ من الغرورِ والتعالي والبعدِ عن المفاهيمِ الضيقةِ التي يصْعُبُ على المجتمع هضمُهَا. إنّ الكلامَ على أنَّ البلادَ بخيرٍ والحكمَ متماسكٌ والأمرَ يحتاجُ إلى بعض التعديلاتِ و»التروشيكات» فقط يمثل ضربًا من الخيالِ وسلوكًا عبثيًّا لا يَمُتُّ للعقلاءِ بِصِلَةٍ وسَيُكْشَفُ عَاجِلاً ولن يُؤدِّيَ إِلاَّ لإرْبَاك الوضعِ وتقديمِ الحجّةِ للراغبينَ في ضربِ المشروعِ الإصلاحِيِّ بالتخويفِ وزعزعةِ الثِقةِ بِقُدْرَةِ الإسلاميينَ على التَّعايشِ ومُمَارسَةِ السُّلْطَةِ دون التخَلِي عن المنْظُومَة القيميةِ والأخلاقيَّةِ. في المجتمعِ مشكلاتٌ بلا حصرٍ والساحةُ كلُّها تَحَدِّيَاتٌ ثَقِيلَةٌ, ولاَ نبالغ إن قلنا إنَّ الأوضاعَ الاجتماعيةَ هشة وقطاعَ الصحةِ يشكو بَثَّهُ وحزنَه إلى الله والتعليمَ في حاجة ماسة إلى وقفةٍ جادةٍ للنهوضِ به والإدارةَ تحولت إلى غابةٍ كل عونٍ فيها أصبح أسدا يُمارسُ سلطةً مطلقةً في قطاعِ عملهِ والأخلاقَ والسلوكَ كومٌ من الأنقاض وخدماتِ النقل رديئة وسوقَ العمل معطلٌ. إن الأمرَ صارَ خطيرا وأتمنى أن يصارحَ رئيسُ الحكومةِ الشَّعْبَ ب: أن يقولَ كفاني ضغطا من قيادةِ حزبه من أجلِ الإبقاءِ في حكومته على وزراءَ فاشلين وعاجزينَ أن يقولَ لساكني قرطاج كفانا ابتزازًا وغطرسةً وتنطعا وإلزام «الرئيس» بممارسة صلاحياته في حدودِ سلطته دون خجل ولا خوف من تفكك «التحالف» أو غضب الشيخ الزعيم. أن يقولَ للفسّاق من «المؤمنين» وقد كَثرُوا اليوم- كفاكُمْ متاجَرَةً بقيَمِ الإسلام واتْرُكُوا المجالَ لمن هُوَ أَقدر منكم ولو كانوا من خصومكم. أن يقولَ للإعلام كفى تحريضًا وقلبًا للحقائقِ وإشعالاً للحرائقِ بِبَثِّ الفتنةِ وتهويلِ الأشياءِ وتأليبِ النُّخَبِ على بعضها البعض وأَنْ تُتَّخَذَ إجراءاتٌ فورية وجريئة لإنهاء تَعْسِ هذا القطاع الذي يحكم من خلاله لك أو عليك. أن يقول للاتحادات النقابية كفى تعطيلا ومزايدة على الحقوق الاجتماعية وتحويل العمال قنابل موقوتة وان يتعامل معها كمنظمة نقابية تخضع كغيرها للقانون وان لا يركن للمقايضات معهم وان استدعى الأمر تعليق «نشاطها». أن يقول للضغوط الخارجية وبكل جرأة أيضا أن لي ربا ولي وطنا ولي شعبا ولي أمانة... وعلينا قدر. أتمنى من أخي حمادي ألجبالي أن يقول أن الإرث ثقيل والدرب طويل وشاق والعبء اكبر منه واكبر من حركة النهضة واكبر من «التحالف» ومن الأحزاب مجتمعة. و أخيرا علينا نحن أيضا أن نصارح رئيس الحكومة بان الطيبة ودماثة الأخلاق والابتسامة وحسن النية وحدها لا تكفي لم نعد نقبل دغدغة مشاعرنا في مواجهة التحديات، عليك أن تعد الناس ما هو الممكن لا الأمنيات أتمنى أن تصدم الناس بصراحتك وبراءتك المعهودة أتمنى أن تقول بمنتهى الحزم والعزم لا للإملاءات من أي جهة كانت نعم للحرية المسؤولة وان تتحمل المسؤولية كاملة عن مصير الوطن وحق المواطنة على حد سواء. فحري بمن يسعى للصّلاح والإصلاح وإنجاز المشروع والنهوض به أن يكون أكثر وضوحا وان لا يتنصّل من واجباته تجاه الله وخلقه وان يدرك أن المراهنة على المراوغة وممارسة التقية السياسية للوصول إلى السلطة أسلوب لم يثبت نجاعته فتغيير أحوال الناس مرتبط بتغيير نفوسهم عدلا وصدقا وإخلاصا ووفاء وصفاء وإذا لم يكن مطلوبا من الناس أكثر من هذا فليس مطلوبا أيضا من أخي سيادة الرئيس وأعضاء حكومته أكثر من هذه الخصال فهم من هذا المجتمع وعلى الصفوة منهم أن يتحلوا بالورع والإيثار فالله لا يحاسب البشر على النتائج بل على النية والأعمال. بقلم محفوظ البلدي