ربما لا يعد استباقا للأحداث حين نعتبر أن فرص نجاح مؤتمر جنيف المقرر انعقاده اليوم حول الملف السوري ضئيلة جدا هذا إن لم نقل منعدمة تماما مثلها مثل فرص نجاح مبادرة مبعوث الأممالمتحدة والجامعة العربية كوفي أنان بنقاطها الست التي لم تر النور إلى حد اليوم. فالمجتمع الدولي وجد نفسه قبل انعقاد المؤتمر في طريق مسدودة، اذ لازال رهين تجاذبات أقطاب دولية محركها الأساسي لعبة المصالح، وليس أدل على ذلك من إعلان موسكو التي أكدت حضورها المؤتمر ولكن مع رفضها رفضا قاطعا مجرد التطرق الى مسألة تنحي الرئيس السوري بشار الأسد عن سدة الحكم كتسوية سياسية للوضع، في حين ترى الولاياتالمتحدة أن أية عملية سياسية لاحتواء الوضع في سوريا يجب أن تنبني على رحيل رأس النظام. وبين هذين الموقفين المتناقضين يأتي إعلان المعارضة السورية بدورها في بيان صادر عن المجلس الوطني المعارض رفضها المشاركة في أية حكومة وحدة وطنية (مقترح كوفي أنان الذي ستتم مناقشته في المؤتمر) في صورة بقاء الأسد. في خضم هذه التجاذبات تطرح العديد من نقاط الاستفهام نفسها حيال الملف السوري بتجاذباته الدولية لعل أبرزها: - ما سبب هذا التعنت الروسي المثير للجدل حيال الأزمة السورية وما سر تشبث موسكو بالأسد؟ - هل يمكن الجزم بأن الولاياتالمتحدة تقف اليوم عاجزة عن إدارة ملف الأزمة السورية؟ - وهل مازال الوضع الميداني المتأزم يحتمل المزيد من التأجيل والمماطلة؟.. - وما هي الانعكاسات المرتقبة لاحتمال فشل مؤتمر جينيف على أرض الواقع؟ تعنّت روسي التزمت موسكو بادئ الأمر بالحياد حيال رياح «الربيع العربي» التي اجتاحت المنطقة، حيث اتسمت تصريحات ساستها في أعقاب نجاح كل من تونس ومصر في الاطاحة بالنظامين الفاسدين اللذين كانا يحكمان فيهما بالحذر، لكن شكلت محطة ليبيا وتدخل «الناتو» للإطاحة بالعقيد الراحل معمر القذافي المنعرج الحاسم الذي دفع روسيا إلى تغيير موقعها من متفرج إلى فاعل ومؤثر، وهو الدور الذي بات بارزا بوضوح لا لبس فيه في ملف الأزمة السورية اليوم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن روسيا كانت رافضة خطوة تدخل «الناتو» لترجيح كفة الثوار في معركتهم ضد النظام الليبي، وقد التزمت بالحياد وامتنعت عن التصويت في مجلس الأمن لتمرير قرار اقامة منطقة حظر جوي على سماء ليبيا. ولعل ما أبدته وما ستبديه موسكو اليوم في مؤتمر جينيف من تصلب في الموقف وتشبث لا مثيل له بالأسد لا يعود فقط إلى سعي الإدارة الروسية للحفاظ على مصالحها الحيوية والابقاء على موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، لأن الولاياتالمتحدة كان يمكن أن تضمن لها هذه المصالح في اطار صفقة مقابل تخليها عن الأسد، وإنما لرغبة روسيا في إقناع واشنطن وباقي الدول الغربية والعالم بأن الأمر يتعلق بمسألة مبدأ وفرض رأي. فساسة موسكو وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين (الهدف الأساسي لبوتين هو اعادة مجد الاتحاد السوفياتي من خلال تبنيه لنظرية غورباتشوف «البريسترويكا» ) يعتبرون الملف السوري الفرصة السانحة لاثبات وجودهم على الساحة الدولية وتبيان درجة تأثيرهم في معالجة القضايا الدولية المستعصية وحتى يثبتوا أيضا أن الولاياتالمتحدة لم تعد الآمر والناهي وصاحبة كلمة الفصل وأن زمن الإمبراطورية الأمريكية قد ولى ومضى وحل زمن عودة الدب السوفياتي. فهل تقهقرت فعلا مكانة الولاياتالمتحدة؟.. وهل يعتبر عدم حسمها في ملف الأزمة السورية بمثابة الفشل؟ تشتّت الجهود إن عدم توصل الولاياتالمتحدة إلى حد اليوم لتسوية ملف الأزمة السورية بغض النظر عن الوسيلة يعود أساسا إلى تشتت جهودها بين الضغط عن طريق القنوات الديبلوماسية والدول المجاورة لدمشق والحليفة لها من جهة ودعم جبهة المعارضة بالسلاح والعتاد العسكري وربما حتى القوات من جهة أخرى في الخفاء. لذلك فإن تشتت جهود الولاياتالمتحدة على أكثر من جبهة خلص بواشنطن إلى التموقع في موقع العاجز، هذا إلى جانب تقهقر مكانتها الدولية في ظل عدم قدرتها على فرض وجهة نظرها على بقية الدول بما فيها روسيا حيال سوريا. ولعل خطوة تسليح المعارضة التي باركتها الولاياتالمتحدة وتشرف عليها ال»سي اي ايه» على الحدود التركية من بين الأخطاء الفادحة التي لم تساهم فقط في احتدام المعارك على أرض الواقع والانزلاق بسوريا إلى حرب أهلية فتاكة فحسب، بل وإلى مزيد تكريس التجاذبات الدولية وزيادة تصلب الموقف الروسي حيث بات الحديث اليوم عن حرب بالوكالة في سوريا بين الأقطاب الدولية في ظل تصاعد وتيرة العنف بشكل ملحوظ ومثير للقلق على الميدان. وضع مقلق الأوضاع اليوم في سوريا تجاوزت مرحلة الثورة الشعبية فقد تراجعت المظاهرات لمصلحة تزياد الهجمات العسكرية ، بحيث بات النظام السوري يواجه ثورة مسلحة بعد تعاظم قدرات المعارضة بفضل الدعم الخليجي وباتت تسيطر على مناطق واسعة في البلاد. ولعل انسداد الأفق السياسي بين مكونات المجتمع الدولي وغياب أي توافق في صياغة مرحلة انتقالية التي تعد المحور الأساسي لمؤتمر جينيف يقودنا إلى استخلاص فشل هذا اللقاء قبل انعقاده. وسيكون لهذه الحلقة الجديدة من حلقات مسلسل عجز المجتمع الدولي عن احتواء الوضع السوري انعكاسات وخيمة على أرض الواقع.. يدفع ثمنها كالمعتاد الشعب السوري من دمائه. فكلما اصطدم المجتمع الدولي بحائط الفشل سعى كل طرف إلى العمل في الخفاء بما يخدم مصلحته، سواء كانت الولاياتالمتحدة التي راهنت على خيار تسليح المعارضة رغم خطورته في ظل وجود مجموعات مسلحة تابعة ل»القاعدة» أو روسيا التي ردت بالمثل وعمدت إلى تزويد النظام السوري بالعتاد العسكري.. بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فإيران كرست بدورها نخبة قواتها العسكرية «الحرس الثوري» بعتادها وإطارتها لمؤازرة ودعم نظام الأسد وسحق التحركات الاحتجاجية التي يواجهها. لذلك فإن مؤتمر جينيف لن يحيلنا إلا على حلقة جديدة من العنف لكن بأكثر حدة ودموية من الحلقة السابقة لمسلسل الأزمة السورية، ناهيك عن اعتراف الأسد في الخطاب الذي ألقاه في اجتماعه الأول بالحكومة الجديدة التي شكلها قبل أيام بأنه يواجه حربا حقيقة، مؤكدا في الآن ذاته تصميمه على تكريس جميع الجهود والسياسات للانتصار في هذه الحرب.