المفاجأة التي حملتها نتائج الانتخابات التشريعية في اليونان للفائزين لم تدم طويلا, ومشاعر الفرحة التي انتابت أحزاب اليسار المتطرف التي خرجت منتصرة من السباق واستطاعت استمالة الناخبين المتوجسين من حزمة الانقاذ المالي والرافضين لخطط التقشف الاوروبية على حساب الاحزاب السياسية الكبرى سرعان ما تلاشت. وبعد عشرة أيام من المفاوضات المضنية باءت جهود الاحزاب الثلاثة الفائزة في السباق بتشكيل حكومة ائتلافية بالفشل الذريع مما دفع باليونانيين مجددا بالعودة إلى خيارصناديق الاقتراع في ثاني انتخابات من نوعها خلال شهر الامر الذي من شأنه أن يفتح المشهد السياسي في اليونان على أكثر من سيناريو في ظل تحول الازمة المالية المتفاقمة في البلاد إلى أزمة سياسية خانقة. ولاول مرة باتت التحذيرات بشأن احتمالات خروج اليونان من منطقة اليورو وعودتها إلى الدراخمه أمرا غير بعيد وقد أشارت كريستين لا غارد مديرة صندوق النقد الدولي علنا إلى ذلك بعد فشل تشكيل الحكومة اليونانية عندما خيرت اليونان بين الخروج المنظم من اليورو بكل ما يعنيه ذلك من تكاليف باهظة وبين القيام بالمراجعات المطلوبة التي يرفض اليونانيون القبول بها نظرا لما تستوجبه من اجراءات وتخفيضات مضنية للرواتب والمعاشات والانفاق.. والارجح أنه لو اجتمع فلاسفة اليونان من سقراط إلى افلاطون وارسطو وكل آلهة الجمال والماء والعطاء في اليونان لحل الازمة الاقتصادية في هذا البلد لعجزوا عن ذلك أمام حجم الديون التي فاقت حسب لغة الارقام 350 مليار يورو وهو رقم من شأنه أن يرهق ويشوش نسق أكبر عمالقة الاقتصاد, بل إن مداخيل الاكروبوليوم وبكل ما يزخر به من كنوز أثرية ومواقع طالما استقطبت السياح من مختلف أنحاء العالم لم تعد تكفي لانقاذ البلاد من الافلاس.. أزمة اليونان والتداعيات المختلفة التي ارتبطت بها على المستويين الاوروبي والمحلي ليست بمنأى عما تعيش على وقعه دول أوروبية كثيرة فالازمة ليست وليدة اليوم بل هي متزامنة مع ما واجهته ايرلندا والبرتغال واسبانيا منذ أزمة المضاربات التي عصفت بأوروبا في 2008 وقد ظل اليونان يمارس سياسة النعامة ويواصل الهروب إلى الامام ويفضل الحلول القصيرة الامد وخلق مواطن الشغل واغراق المؤسسات العمومية بالمعطلين للهروب من المظاهرات والاعتصامات المتكررة دون التوصل في المقابل إلى تحريك العجلة الاقتصادية وتحقيق النمو المطلوب, وبدل معالجة جذور الازمة الاقتصادية وتوخي الاصلاحات الضرورية التي لا يمكن بدونها الخروج من عنق الزجاجة, ولا يخفي خبراء الاقتصاد اليونانيون تشاؤمهم من خيار العودة إلى صناديق الاقتراع في عملية انتخابية جديدة قد تستنزف المزيد من الاموال في ظرف وجيز, بل ان الكثيرين ممن يتابعون المشهد في اليونان بواقعية وبعيدا عن وعود السياسيين الكلامية يعيدون الازمة إلى جملة من العوامل التي ساهمت في دفع البلاد إلى حافة الافلاس وهي عوامل تشترك في صنعها الحكومات المتعاقبة التي فشلت في اعتماد الشفافية المطلوبة في مكافحة ظاهرة التهرب الضريبي وتوخت اللين والتجاهل في مراقبة الفساد ورفضت اقرار قانون رفض الحصانة عن النخبة الفاسدة. ولاشك أن عقلية التواكل التي طغت على اليونانيين وأظهرتهم في مظهر الرافضين لكل خطة اصلاح وهم الذين وقفوا بالمرصاد رافضين حزمة اجراءات التقشف التي يضعها الاتحاد الاوروبي كشرط أساسي لمواصلة دعم اليونان ومنع انسلاخه عن منطقة اليورو زادت الوضع تعقيدا, ولم يقبل اليونانيون المقارنة المهينة التي فرضت عليهم خاصة مع الشعب الالماني الذي استطاع تجاوز أزماته بجهوده وامكانياته الخاصة بعيدا عن منطق التسول وسياسة اليد السفلى.. والواقع أنه برغم كل التعقيدات التي يواجهها اليونان يبقى من غير المرجح أن يقبل اليونانيون بالمخاطرة بمغادرة منطقة اليورو وادارة ظهرهم للحضن الاوروبي الذي مهما قسا على اليونان فلا يمكن أن يقبل بالتخلي عن أحد أعضائه وهنا يكمن الفارق بين اليونان وبين غيره من الدول التي تعاني أزمات وصعوبات اقتصادية خارج حدود الاتحاد الأوروبي...