موضوع الأمن أصبح موضوعا حارقا خلال الأيام الأخيرة، فالمواطن ينشد الأمن والأمان، في حياته وممتلكاته وتنقلاته وشغله، إلا أن المفارقة الجديدة، هي أن أعوان الأمن الذين يطالبهم بحمايته، أصبحوا هم أنفسهم يطالبون بالأمن لهم، أمنا على سلامتهم الجسدية وأرواحهم، وعائلاتهم! فقد تكررت الاعتداءات عليهم خلال المدة الأخيرة، ووصلت الى حد القتل(1). وفي هذه الأجواء المشحونة المنفلتة، وبعد أن انتصب على رأس وزارة الداخلية سجين سياسي سابق، اضطهد وعُذّب وقُهر وأُذلّ ومُرّغ عرضه في الوحل وانتُهكت سمعته، يحقّ لنا طرح السؤال الهام والهام جدا: أي «أمن» نريد؟ وقبل الإجابة، لا بد من التذكير ولو بعجالة ب«أمن» العهد البائد وصورته في ذهن ومخيال الرأي العام. فالبوليس كان في ما مضى عصا بن علي الغليظة، المتسلطة على البلاد والعباد، مما خلق قطيعة بينه وبين الشعب وصلت حد الكراهية والعداء، وغاب عن البعض، ويغيب الى اليوم، أن «أمن» عهد بن علي «أمنان»، فهناك جهاز الأمن العدلي، أي المسؤول عن أمن المواطن، وهناك جهاز الأمن السياسي (والمخابراتي) المكلف بحماية «بن علي بابا» والأربعمائة أو الأربعة آلاف حرامي المحيطين به. «الأمن» الأول مكوّن في عمومه من «أناس غلابة»، يعانون الاذلال وشظف العيش، ونقص امكانات العمل من سيارات وتجهيزات مختلفة، أي أن هذا «الأمن» كان الأخ الفقير لشقيقه «الأمن السياسي». فالصنف الثاني كان يحظى بالامتيازات المختلفة، والتجهيزات والتقنيات العصرية والسيارات الفارهة، وبعض هذه التجهيزات والسيارات كانت مهداة من دول أجنبية، كألمانيا وفرنسا للبوليس العدلي ولشرطة المرور، فيتم الاستيلاء عليها وتحويل وجهتها نحو البوليس السياسي وجهاز أمن حماية الرئيس. بحيث أن الأمن المكلف بحماية المواطن في ممتلكاته، تم تفقيره وتهميشه كثيرا ل«تسمين» شقيقه المكلف بحماية الرئيس الجاهل وعصابة اللصوص المحيطة به. ومما زاد الطين بلة أن «بوليس المواطن» كان لا يحاسب إطلاقا على أي قصور أو تقصير، وذلك بشهادة العديد ممن تقلدوا المسؤولية صلبه، فأن تكثر جرائم القتل والاغتصاب والسرقة و«البراكاجات»، فذلك لم يكن يزعج «الزين بابا» وعصابته، اللهم إذا تعلق الأمر بسرقة أو اعتداء على أحد السياح أو على أحد المقربين. وشيئا فشيئا فقد هذا الجهاز كل جدوى ونجاعة بشهادة العاملين فيه. أما البوليس السياسي والاستخباراتي، فيحاسب على أي تهاون أو تقصير حسابا عسيرا، مما جعله ذا جدوى كبيرة (Performant). فأنتم تسمعون دون شك ب«الفرقة القومية لمقاومة الإجرام»، وما أدراك ما فرقة مقاومة الاجرام!! فقد صادف أن شاهدتُ خلال سنة 1995 على ما أظن، عددا من أعوانها يدفعون سيارة «رابحة» كبيرة الحجم لتشغيلها وهم يلهثون و«لسانهم طالع»، ولما أبديت تعجّبي من ذلك، أفادني رئيس الفرقة معلقا بمرارة: بحوزتنا ثلاث سيارات، احداها في المستودع للإصلاح، وهذه لا تشتغل إلا ب«الدزّ»، فكيف تريد من الأعوان أن تكون لديهم رغبة في العمل؟! وبالإضافة الى كل ما سبق، فإن بن علي، وفي نطاق أكذوبة احترام حقوق الانسان التي تزيّن بها، أطلق البوليس السياسي يسجن دون أي ضوابط لا في الزمان ولا في المكان، ويعذب ويقتل دون حساب، بينما كان يتلقف أية هفوة من البوليس العدلي في هذا المجال، لكي يحاسب بكل قسوة للتغطية على فظائع حراس نظامه، ولخداع الرأي العام الخارجي. فالرأي العام الداخلي لم تكن له أية قيمة لديه. وقد انجر عن هذا الوضع «تشليك» ما أسميه بوليس أمن المواطن، مقابل تغوّل بوليس «الحاكم». والخطوة الأولى في اصلاح وزارة الداخلية تتمثل في إبعاد وزارة الداخلية ابعادا مطلقا تاما وشاملا عن كل ما هو سياسي، وبعث وكالة أو خلية لا تهم التسمية تابعة للوزارة الأولى أو ولمَ لا مستقلة كل الاستقلال مهمتها الدفاع عن أمن الدولة الداخلي والخارجي، وتسلّم تقاريرها للوزير الأول أو لرئيس الجمهورية أو لكليهما. أما الخطوة الثانية، فتتمثّل في تقوية بوليس أمن المواطن، من حيث العدد والعُدّة (أي التجهيزات) وتطوير كفاءاته، من حيث تعصيره وانفتاحه على التكنولوجيات الحديثة للبحث والتحقيق، والعمل على أن يتدارك تأخره (son archaïsme) في هذا المجال في أسرع وقت. إن بلادنا هي حسب اعتقادي في حاجة ملحة اليوم الى شرطة قوية، لا تتهاون في حماية المواطن وممتلكاته، على صورة الشرطة الأمريكية، لا على صورة الشرطة الفرنسية أو الاسكندنافية. شرطة قوية حازمة، تعمل في نطاق احترام القانون وأطر احترام حقوق الانسان، شرطة لا تهين المواطن، لا في الشارع ولا في مقراتها ولا تنتهك حقوقه. شرطة نظيفة تخضع لأجهزة محاسبة ومساءلة كفأة عند الخطإ البيّن، ولكن «ظهرها محميّ»، أي تتمتع بالحماية القانونية الكافية عندما تمارس مهمتها السامية في حماية الأفراد والممتلكات الخاصة والعامة. هذا هو في نظري الأمن الذي نريد، والذي يكفل أمن الحاكم والمحكوم في آن واحد.