في بلد اعتاد منذ الاستقلال على انتخابات مسبقة ومعروفة النتائج سلفا عاشت تونس يوم 23 أكتوبر ولادة جديدة ومرحلة غير معهودة وصفها العديد "بالعرس الديمقراطي" النتائج أعطت تفوقا واضحا لحركة النهضة لم يكن احد ينتظره تقريبا.. وهو ما جعل التساؤل قائما حول هذا الإقبال المكثف ولماذا اختار أغلب الناخبين التصويت لحركة النهضة. وللإجابة على هذه التساؤلات اتصلت "الصباح" بطارق بن حاج محمد باحث في علم الاجتماع الذي ذكر أن كثافة الإقبال تفسر أولا بتعطش التونسي للمشاركة السياسية والتعددية فالتونسي أحس لأول مرة أن لصوته قيمة سيما وأنها أول الانتخابات التي لا يدفع إليها التونسي دفعا ولا يجر إليها جرا. كما انه ورغم ضعف الأداء السياسي للأحزاب وضعف الحملة الانتخابية إلا أن اللجنة المستقلة للانتخابات وحملاتها التوعوية والشخصيات الموجودة فيها بعثت برسالة طمأنة إلى الناس على أن إرادتهم لن تزيف. هذا إلى جانب بعض حملات التخويف المتبادلة بين الأحزاب التي جعلت الناخبين يشعرون أن مستقبل تونس مهدد وأحسوا أن نفوذهم يمكن أن يحدد الفارق وان اقل صوت يمكن أن يحدث الفارق.
لماذا النهضة؟
من جهة أخرى أكد طارق بلحاج انه لم يكن مفاجئا أن تتصدر النهضة بقية الأحزاب لكن المفاجأة في حجم هذا التصدر ونسبته وارجع هذا التصويت المكثف للنهضة الى عدة اسباب منها خطاب حزب النهضة: فمنذ 14 جانفي توجهت النهضة للجميع بخطاب طمأنة وغزل ولم تدخل في سجالات مع أي حكومة ولم تطالب بحل التجمع والبوليس السياسي مما جعلها تستقطب (إضافة إلى قواعدها التقليدية) وجوه من بقايا التجمع والمستقلين والليبراليين مما جعلها تخوض الانتخابات بأذرع وأيادي متعددة. العمل الميداني المكثف الذي قامت به النهضة في الجهات وتحركها في الداخل والخارج والأرياف معتمدة في ذلك على صورتها الايجابية لدى المواطن العادي والذي يرى فيها حركة ذات تاريخ نضالي مشرف ومعتمدة على شخصيات محلية لها إشعاعها وتاريخها ومكانتها الاجتماعية في جهاتها وهذا ما لم يقم به غيرها.
تشتت اليسار والقوى التقدمية والعلمانية
دخلت هذه القوى العملية الانتخابية مشتتة وهو ما أثر على مردودها وصورتها لدى الناخب خصوصا وان بعض نخبها التجأت إلى الخطاب الثوري التحريضي المبالغ فيه والبعض الآخر مس بعض المقدسات بطريقة ما مما جعل شريحة واسعة من المجتمع تنظر إليهم بعين الريبة وعدم الرضا والتوجس. من جانب آخر أضاف السيد بلحاج انه من أسباب الأخرى التي جعلت النهضة تتصدر الانتخابات بهذه الكثافة هوالفهم الوجداني والعاطفي والأخلاقي للعمل السياسي من طرف بعض الناخبين فالبعض قد ربط الفساد الذي كان قائما بالبلاد بطبيعة الدولة المدنية وليس في من يحكم هذه الدولة. وهذا الواعز الديني لدى وظفته النهضة لصالحها لتحصد أصوات المواطنين العاديين. واكد عالم الاجتماع ان هذه الانتخابات مليئة بالدروس منها خاصة انه ليس بالمال السياسي وحده نجمع أصوات انتخابية بل بالعمل الميداني في مستوى المجتمع المحلي بكل خصائصه وتعقيداته، والدليل فشل بعض الأحزاب الغنية على غرار بقايا التجمع والاتحاد الوطني الحر والحزب الديمقراطي التقدمي لم يصلوا إلى ما كانوا يصبون إليه ويتوقعونه. كما إن كثافة الحضور الثقافي والإعلامي للطبقة السياسية اليسارية والتقدمية والعلمانية لا يعكس حجمها الانتخابي الحقيقي فهي رغم أهميتها تبقى محصورة في نخبة سياسية وثقافية معينة لا تملك جسور تواصل كافية مع المجتمع تمكنه من اكتشافها والانخراط معها في مشروعها الثوري والحداثي، فهي مدعوة إذن لمراجعة أفكارها وطرق عملها. واضاف ان اهم الدروس التي يجب أن تستخلصها هو ان الناخب مل من منطق الوصاية والتعالي والنتيجة من شانها ان تدعو بعض الاحزاب والشخصيات إلى مراجعة الأداء السياسي.
الانتخابات وضعت الجميع في مأزق حقيقي
من جهة اخرى ذكر طارق بلحاج ان نتيجة الانتخابات وضعت الجميع في مأزق فمن خسر هو في مأزق لأنه عرف حجمه الحقيقي، والرابح في الانتخابات هو من المؤكد في مأزق أيضا فالذي لم يصوت للنهضة لا يختلف معها في الأفكار فقط بل انه في غالب الأحيان يزدريها ويكرهها فإذا كانت هذه حالة لدى نسبة من الناخبين فعلى النهضة التعامل مع هذه الشريحة المناهضة لها والتي لا تختلف معها تماما في البرنامج السياسي فقط بل أيضا في مشروعها الثقافي والسياسي والاجتماعي وهذا امتحان صعب للنهضة. الامتحان الثاني أن منطق المعارضة السياسية يختلف عن منطق الحكم الذي يفترض للاستجابة لتطلعات الناس. كما ان الانتخابات بينت أن التونسي أوالبعض منهم ليسوا متصالحين مع أنفسهم.. فالإنسان في حد ذاته يحمل نقيضه فالعديد صوت بمنطق العاطفة والوجدان وليس بمنطق الفكر والاختيار. والأغرب ان بعض القائمات المستقلة من حصدت صفرا من الأصوات بمعنى أن حتى المرشحين فيها لم يصوتوا لقائماتهم مما يؤكد بان التونسي غير متصالح حتى مع نفسه.