بقلم: مصطفى البعزاوي إن المتتبع لتراث الفكر الإسلامي ومنتجاته يلمس تباعد المسافة بين النص القرآني والفهم «العرف» البشري بما يمثله هذا العرف من تراكمات معرفية حول صيغة أو منظومة متفق عليها في العموم في فهم هذا النص القرآني وتطبيقاته. يتجلى هذا التباعد في رجوع الباحثين و الأفراد في مجالاتهم و حاجاتهم إلى كتب الفقه والتفسير بدل الرجوع إلى القرآن الكريم على ما للإنسان المعاصر من قدرات علمية هائلة وفي كل الاختصاصات فإنسان اليوم دخل الذرة في مجال الفيزياء ودخل الخلية في مجال علوم الحياة وخرج من المجال الجوي الأرضي إلى مجال المجرة، يقف عاجزا أمام الدخول إلى النص القرآني في موقف غير مفهوم و لم يعد مقبولا, من نتائج هذا التباعد هو أن ما اعتاد عليه الناس و توارثوه و أنسوا له من فكر محض واجتهادات بشرية أصبح هو مقال الإسلام ودلالة للنص كمتعارف عليه. فالناس والمدارس تواتروا هذه المفاهيم وقبلوها، وحولوها إلى مواضيع بحثية زيد عليها الكثير حتى اتسع هذا التباعد شيئا فشيئا و لم يعد من الممكن الرجوع أو مراجعة الأسس الأولى لهذا البناء التراثي. كل العلوم تطورت بالنقد التمحيص والإضافة والحذف إلا العلوم الشرعية بقيت لغزا و مقدسا لا يسمح لأحد أن يقترب منها سواء بالمنع الذاتي أو بالمنع الجمعي. و الغريب هو كيف لا يزال بعض العلماء و المفكرين و المصلحين يقولون أننا على مذهب الإمام مالك مثلا- هكذا و بكل بساطة- كأن مذهب الإمام مالك جزء من و حي الله و بعض من رسالة السماء يفرض على الناس إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. تداخل الفهم البشري التراثي للنص مع دلالات النص القرآني الرباني وصل حد الاندماج وذوبان الواحد في الآخر إلى درجة أصبح من الصعب تفكيك المنظومة التراثية و استحال رسم الخط الفاصل بين المقدس و البشري. و هذا هو المرض العضال الذي أصاب الفكر الإسلامي أولا و معضلة الدين الإسلامي ثانيا. أصبحت للأحكام و الآراء الفقهية درجة من القداسة تعادل أو تفوق حتى قداسة النص القرآني نفسه. فمثلا « يَا أَيهَا الذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدوهُ إِلَى اللهِ وَالرسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59 النساء) يقف معناها عند الفقهاء، و بصرامة، عند طاعة أولي الأمر مهما كانت طبيعتهم و نظام حكمهم و سيرتهم وظلمهم و عدلهم وصلاتهم و صيامهم، كل هذه تصبح ثانوية إذا قدر لهم أن يكونوا من أولي الأمر وهذا بصراحة بلاهة وسوء نية و تواطؤ وافتراء بين على الله ورسوله. وهي القاعدة التي حكمت بها الدولة الإسلامية على مر العصور ولا تزال. نسوق هذا مثالا على الانفصال بين رسالة الله في العدل و الحكم الرشيد و بين التخريجات الفقهية التي هي أبعد ما تكون عن الحق. والأخطر من ذلك هو التقنين الشرعي لعقاب جريمة الخروج عن الحاكم و السلطة ( يعني المعارضة) و هي هدر الدم والقتل. والحقيقة إن هذا التداخل بين البشري و المقدس في المجال الديني كان إستراتيجية مدروسة و خيارا بشريا- لا دخل للدين فيه و هو منه براء- لتأمين وتشريع تفرد السلطة السياسية بإدارة الشأن العام، و إبعاد الفرد أو المواطن أو الرعية عن هذه المساحات التي ربما تفتح عينيه على الحقوق المغصوبة كي لا يصبح هذا الآدمي مصدرا من مصادر وجع الرأس يهدد منظومة الدكتاتورية والحكم المطلق حيث تتفرد العائلة أو القبيلة أو شخص معين ملك، أمير، رئيس- بالسلطات المطلقة للدولة المركزية. لذلك حرصت كل القوى المغتصبة للحكم وكانت كلها بلا شرعية بدء بالدولة الأموية- إلى مأسسة الشأن الديني واعتبرته جزء من مجالها الحيوي المحرم الذي لم تتنازل عنه حتى عصرنا الحاضر برغم أنها، وللمفارقة، علمانية و لا دينية. فالمفتي- القاضي الشرعي- ليس السلطة بل هو موظف السلطة. لقد كان الهدف الحقيقي هو تثبيت السلطة، أي سلطة، وكذلك و هذا الأهم هو عزل مضمون رسالة الدين في إقامة مجتمع العدل و المساواة ومنعه من إنتاج طرحه السياسي المتميز؟ كانت، و لا زالت، السلطة السياسية شديدة الحرص، كل الحرص، على تأصيل و»تفقيه» فهم معين للوظيفة الدينية في المجتمع و الدولة بالشكل الذي لا يكون فيه الدين مشروعا حضاريا و رسالة إنسانية بل هو مجال للتطهر من أوساخ الدنيا وزهد في مقومات القوة البشرية. أما السياسة والحكم و إدارة الشأن العام فهو لمن لهم قدرة على التلاعب بين حلال طقوس الدين وحرام متطلبات الحكم. أهل الحكم و السياسة هم وحدهم القادرون على السير على هذا الحبل المزدوج لأنهم يتقنون المزج بين الطهر و النجاسة, أبعد رجل الدين الفقيه عادة - من السلك السياسي لأن هذا «لا يليق به» فهو لا يقدر و لا يجدر به أن يستجيب لمتطلبات السياسة القذرة لأنه لا يستقيم معه أن يغدر و يكذب و يظلم و أن يستعمل القسوة والعنف و القتل، وهو، للأسف، ما درجت عليه السلطة السياسية الإسلامية في غالب الأحيان. فمن المنطقي إذا أن يترك هذا الأمر لأصحابه فلا يغامر رجل الدين ويدخل مجالا وسخا لا يعنيه و لا يقدر عليه. بهذا المعنى نستطيع القول أن السلطة السياسية في التاريخ الإسلامي قد أسست ومنذ فجر التجربة الإسلامية للعلمانية بمفهومها الحديث كما أسست لمفهوم معرفي للسلطة يتلخص في فسادها بالضرورة و هي اخطر الأمراض المعرفية على الإطلاق والتي أفرغت الرسالة السماوية من تميز طرحها العادل والرشيد فلا توجد نتيجة لذلك، نظريا و فعليا، سياسة نظيفة حتى في الطرح الديني وهذه أكبر مؤامرة ضد العقل والذكاء البشريين وأقروا باستحالة وجود سياسي نظيف، خصوصا أن هذه الخلاصة تقال من داخل فضاء الطرح الديني ومصدره بالنهاية الوحي، يعني الله عز و جل. ونعجب كيف أن الباحثين والمؤرخين والمشتغلين بالدين و السياسة والتاريخ لم يقفوا ولا يقفون على هذه الحقيقة-الكذبة التي طبعت بعمق تاريخ الدولة الإسلامية حتى وقتنا الحاضر, الأمر الذي يمكن أن يجيبنا جزئيا عن هذه القدرة الفائقة للشعوب العربية و الإسلامية، من دون غيرهم من الشعوب، على تحمل الذل و المهانة و القمع و القبول و الرضى بأبشع أنواع أنظمة الحكم و الحكام فماذا تعني العلمانية غير فصل الدين عن السياسة بهذا الأسلوب؟