التعيين.. العزل وإدارة الأزمات ليست من مشمولاتي استقبلني في مكتبه بمقر وزارة الداخلية، بتواضعه المعهود، وبجديته المعروفة، البادية دائما على محيّاه.. تحدثنا، والحديث ذو شجون، في عديد المسائل المطروحة على الساحة السياسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية.. وكان هاتفاه الجوال والمكتبي يرنّان، من حين لآخر، فيرد على مخاطبيه بصدر رحب وبابتسامته المعهودة..
حوار عمار النميري
ثم شرعت في اجراء الحديث الصحفي معه، وسط رنين هاتفيه، من فترة إلى أخرى.. وابتدأ المشوار، فسألت الأستاذ محمد لزهر العكرمي، وزير الداخلية المكلف بالاصلاح:
السيد الوزير، جئتم الى وزارة الداخلية بخطة اصلاحية للمنظومة الأمنية، لتأهيل هذا القطاع وتعصيره، وحتى يتماشى مع وضع تونسالجديدة بعد ثورة 14 جانفي 2011.. ففيمَ تتمثل هذه الخطة؟.. وما هي تصوراتكم لاصلاح المشهد الأمني التونسي الجديد؟
نظر الوزير الى بعض الملفات المتكدسة أمامه، فاحصا احدها، ثم أجابني:
أعتقد أنني لما قدمت الى وزارة الداخلية، جئت لمهمة الاصلاح، والى حد الآن لم يحدد أحد مهامي.. في حدود شهرين كان تحسسي لمسألة اصلاح المنظومة الأمنية، من خلال عدد كبير من اللقاءات مع أناس، سواء مختصين، كانوا، أو مهتمين بموضوع الأمن.. ثم بالممارسة، وقد أطرت حدود أو مجال التدخل، وفهمت من الممارسة أنه ليس بالإمكان أكثر من وضع تصور، لأن في المستقبل، بما يعني للتوضيح، أنه ليس من مشمولاتي لا التعيين، ولا العزل، ولا الانتداب ولا إدارة الأزمات، وإن كنت تدخلت بإبداء الرأي في بعض الأزمات، فاكتشفت أن فهم اصلاح الأمن يتضمن ثلاثة تصورات في البلاد..
الترميم..
التصور الأول سياسي، يقوم على إلغاء كل شيء، وإعادة بناء الأمور انطلاقا من الصفر، وهو تصور خارج أطر وزارة الداخلية، واعتقد أنه الأقرب إلى فلسفة بول بريمر، الذي أثبت فشله في إلغاء مؤسسات الدولة العراقية... فالطرد العشوائي، والاعتماد على الإشاعة وتصفية الحسابات، بلغة ثورية، لضرب العمود الفقري للدولة، قد يستهدف كفاءات أمنية نحن في حاجة إليها... وعليه، فإن ما حصل مع 42 ضابطا طال مجموعة، منها من يستأهل التقاعد الوجوبي، ومنها من كان ضحية للارتجال، وإرضاء الشارع، بينهم أشخاص عملوا في التشريفات، مثل العقيد لطفي القلمامي الذي وجب ان يكون لدينا ما يكفي من الشجاعة الأدبية حتى نعيد قراءة ملفه. كما أن إعادة المطرودين، وعددهم 3000، كان يجب أن يتم بناء على دراسة، ملفاتهم حتى لا يكون القرار عاطفيا.. وهناك تصور ثان للإصلاح، يكتفي بحدود الترميم، وهذا موجود بوزارة الداخلية.. وأعتقد أنّ الدافع الذي ينبني عليه تصور إداري، كالتركيز على طريقة استقبال المواطنين في المراكز الأمنية، وتحسين صورة الشرطي، والتكثيف من تدريس حقوق الإنسان، وجلب محاضرين من الخارج، وهو برنامج سمعت أنه انطلق منذ شهر مارس الماضي، ولكني لا أعلم عنه الكثير.. أما وجهة النظر الثالثة، ولا أقول قررتها، أو توصّلت إليها بشكل نهائي، وإنما أعددناها في شكل مقترح سيقدّم أيام 22، 23 و24 سبتمبر الحالي، في ملتقى أول بتونس العاصمة، عبر سلسلة من المداخلات المختصّة.. ثم سيُعرض هذا المقترح على الحكومة الانتقالية، وسيكون محل نقاش مع عدد كبير من الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني، والشخصيات الوطنية، خلال الملتقى، ليتم إغناؤه وتعديله بما يتفق والرؤية العامة لهذه المكونات.. وهذا البرنامج يقوم على مجموعة من الأفكار الأولية تستهدف البيئة الأمنية وتعديلها بما يتناسب والوظيفة الأمنية الجديدة/ المرجوّة، أي بمعنى الخروج من أمن النظام العام الذي تحوّل في العهد السابق إلى نظام خاص لفائدة الرئيس المخلوع وعائلته وأصهاره، إلى خدمة عامة يتلقاها المواطنون، فتساعد على التنمية، شأنها شأن الصحة والتعليم، لأن الخدمة العامة من حق المجتمع المدني والسياسي تقييم مدى جودتها، والتأثير فيها ما دام هو الذي يؤجّر القائمين بها من أموال الضرائب.. وهذا يقتضي ايجاد ادارة مرنة أي وزارة للخدمة الأمنية او وزارة أمن داخلي عكس ما كان يعرف بوزارة الداخلية والتنمية المحلية، بحيث يقتصر دور الوزارة على تأمين الخدمة الامنية، بما في ذلك جمع المعلومات المؤكدة عن كل ما يلزم لاتخاذ القرار السياسي الرشيد، كتأمين الاستقرار وأمن المواطنين، وحرياتهم الفردية والعامة، لان اختصاص وزارة الداخلية بالتنمية ساهم على مدى السنين الماضية، في خلق نموذج تنمية تالة، وتنمية الحوض المنجمي الذي يبيع «التراب» بثمن باهظ، ولا يحصل الا على الغبار، وتنمية القصرين التي خرجت بمعدل 20 سنة من تاريخ تونس، وتنمية سيدي بوزيد التي انطلقت منها الثورة.. فما دامت هناك وزارة تنمية جهوية عليها أن تشرف على هياكل التنمية الجهوية، علّنا نعدّل منوال التنمية المستديمة العادلة..
الأمن والاقتصاد
كيف تتراءى لكم، سيدي الوزير، علاقة التنمية، والمشهد الاقتصادي عموما، بالمنظومة الأمنية؟
ان الوظيفة الاقتصادية للأمن تقتضي ايجاد وكالة استخبارات قوية، وممولة جيدا، لتبحث في الخارج عن مجال اقتصادي حيوي لتونس المؤهلة لأن تلتحق بمستوى بعض البلدان الآسيوية مثل كوريا.. هذا بالطبع، بعد تأمين حدود الوطن، على غرار بعض التجارب الناجحة للدول التي تطمح الى الالتحاق بنوادي الكبار لضمان مستقبل أجيالها..
والقيادات الأمنية، كيف تنظرون اليها في خطتكم الأمنية ؟
يمكن التفكير منذ الآن، في توحيد القيادات الأمنية، لتحقيق النجاعة والفاعلية، سواء في ما يتعلق بجودة الخدمة، او بالمرونة وسهولة الحركة... وهذا يقتضي البدء بتقريب سلكي الحرس والشرطة، ودراسة التجارب الناجحة في توحيد هذين السلكين الناشطين. وللتوضيح، فهذا أمر قد يأخذ وقتا يستغرق سنوات، ولا يمكن القيام به بشكل مستعجل وعشوائي، مما يمس بالمكاسب في كل قطاع، أو بالمراكز الأمنية التي تكونت، او حتى بالمصالح المشروعة، شأنه في ذلك شأن أمن الزي المدني، والزي النظامي. ثم ان دولة ديمقراطية لن تحتاج الى إدارات تتحكم في الحريات السياسية والتراخيص حتى لمحلات الحلاقة..! أما بخصوص الانتشار الأمني، فلمزيد الفاعلية، والنجاعة بات من المتجه تغيير صورة مركز الشرطة الذي يجتمع فيه العمل الاداري، والعمل العدلي، حيث يجتمع بذات المركز المنحرف الموجود لاجراء استنطاق، والطبيب او المحامي، او الصحفي الذي جاء لاستخراج شهادة إقامة... ويضاف إلى ذلك الخروج من صورة المركز الذي لا يتجاوز عدد أعوانه الستة أو 10 وهو في الغالب، غير مجهز، ويحتاج عند التدخل إلى النجدة، بأن تصبح المراكز تقوم على 40 أو 60 رجلا مجهزين قادرين على التدخل والنجدة، وخدمة المواطنين، مما يضع صورة الأمن القوي دون عنف، المهاب والقادر على القيام بالأعمال الدورية في كل وقت، وفي أي مكان...
رجل الأمن المنشود
وهل لكم، السيد الوزير، تصور وقاعدة اساسية لتكوين رجل الأمن المنشود لتونسالجديدة/ المنشودة؟ بالنسبة للتكوين، لا أعتقد في ان ما يراه البعض من زيادة في تدريس حقوق الانسان، لا يكفي لايجاد شرطة الجوار، بل انه لا بد من التفكير، على المدى المتوسط والبعيد، في احداث تكوين جديد متكامل، يبدأ ببعث كلية للشرطة، وانتداب حفاظ الامن بشهادة الباكالوريا على غرار المعاهد العليا المستحدثة لاختصاصات أخرى، بحيث يمتد فيها التكوين على مدى سنتين، مع امكانية الاستعانة بالطلبة، خلال هذه الفترة، في الانتشار الأمني، عند الحاجة، وهي فترة تجعل الشرطي الذي قضى تكوينا بدنيا وحقوقيا وفنيا على مدى سنتين قادرا على ان يؤمّن المهام الموكولة اليه بشكل اكثر فاعلية.. ويمكن لهذه الكلية ان يؤمّن تخريج الضباط والمحافظين في مختلف الاختصاصات الأمنية... واذا كنا فعلا نفكر بعلاقة الامن بالتنمية والمجال الحيوي لتونس في الخارج، فسيكون من الضروري بعث مركز دراسات استراتيجية للاغراض الامنية، لان الامن اصبح مادة تباع من حيث هو خبرة، عبر العالم، وهو مادة من اغلى ما هنالك في دخل بعض الدول.
ما مدى تقديركم لتقبّل المؤسسة الامنية لهذا التصور، ولهذه الافكار؟
أنا جئت الى هنا، لوضع تصور حول الاصلاح، لان التسيير اليومي يؤمنه وزير له كفاءة ادارية عالية، ولا اعتقد ان لي ملكة تفكير لاتخاذ قرارات بخصوص الادارة اليومية تفوق، أو حتى تعادل ما لدى المشرفين الحاليين من خبرة وكفاءة.. لذلك تحدد دوري في وضع افكار تخص ال20 سنة القادمة، ولن ادعي اني انا من سينفذها، أو اشرف على تنفيذها.. والافكار الجديدة، عادة لا تلقى الترحيب، وقد تثير الخشية والحذر، وهذا امر طبيعي.. لكن عندما تلتقي الارادات، ويتوفر حسن النية يمكن تعديل وتكييف الافكار حتى تلائم المصلحة العامة التي يفترض في الجميع، العمل على تحقيقها..
الامن والمجلس التأسيسي
نحن على ابواب انتخابات المجلس التأسيسي، وبالتالي "سلطة"' جديدة، قد ترى في تصورك امرا غير ذي جدوى.. فهل يمكن ان ينسف المجلس التأسيسي المقبل هذه الافكار؟
هذه الافكار غير ملزمة لاية جهة كانت... والمجلس التأسيسي ليس من مشمولاته مناقشة عدد اعوان الامن في المراكز، ولا عدد الدوريات في مناطق الساحل او داخل البلاد، وتجهيزها، الا انه، اذا أجمع على ان هذه الافكار ضد الاصلاح فساقتنع بذلك، ان قدم تعليلا مستندا الى الواقع بفتح آفاق لبلد آمن، وشرطة تؤمن بان عملها في ظل الديمقراطية انفع لافرادها من العمل في ظل الاستبداد.
كيف، تقيمون، الاداء الامني في الظرف الراهن؟
الاداء الأمني له فضل كبير على ما ننعم به من استقرار محدود، ويجب توجيه الشكر والامتنان لكل من يساهم في عدم خوف التونسيين في الليل وهم في منازلهم، من قوات شرطة وحرس وطني والجيش الذي يقدم خدماته ويستحق التحية كل صباح، وكأن كل جنودنا ذلك "الجندي المجهول".. وأود القول ان هناك من رجال الامن من يحس بالغبن لان هناك، بالتأكيد كفاءات، كانت تتطلع الى ان تأخذ دورا في هذه المرحلة، وقد تكون مهضومة، الجانب، الا ان سمة الانتقال الديمقراطي تجعل من الغبن مقبولا نسبيا، لذلك نرى مجهودات كبيرة تبذل لحفظ الامن، ولا نرى الكثير من التذمر.
سلبية عون الامن!
لكن، الا ترون ان هناك من اعوان الامن من قد يتعامل بسلبية مع بعض الانفلاتات؟
ليس لي معلومات دقيقة في هذا الجانب، ويجب القول ان قوات الامن تعيش حالة نفسية سيئة نتيجة الانفلات الاعلامي الذي أساء في مناسبات كثيرة الى رجال الامن، حتى ان الأمر في اعتقادي، أصبح يحتاج الى خلق هيكل او آلية للمراقبة النفسية، وهذا بالتأكيد أثر على مستوى نوعية الخدمة الأمنية، الا ان ذلك لا يدفعنا الى نفي التقصير في بعض المواقع لظواهر فردية، لان نظرية "الرجل المناسب في المكان المناسب" قد تتوفر احيانا، بل بالعكس، يكون الأمر كما حدث مع أحد الرؤساء العرب الذي كتب مجهولون على قبره "الرجل المناسب في المكان المناسب".
كيف يتراءى لكم موقف الشارع حول اقتراحاتكم وتصوركم لاصلاح المنظومة الأمنية؟
كل المفاهيم التي طرحت مستقاة مما يشبه سبرا للاراء، الذي لم يبدأ في الحقيقة، مع تكليفي بهذه المسؤولية، بل من أيام الفراغ الامني الذي حدث في الايام الموالية ل14 جانفي 2011، وقد حضرت أكثر من ملف تلفزي بخصوص الفراغ الأمني.. وطيلة الاسابيع الماضية كان الموضوع الوحيد الذي تحدثت فيه مع طيف واسع من الحزبيين ونشطاء المجتمع المدني، وكوادر الأمن، وحتى الاعوان.. ثم اني قرأت العديد من النصوص المكتوبة حول تجارب بعض الدول بخصوص الانتقال الديمقراطي، والرؤى التي انتجتها تجارب العدالة الانتقالية.