بقلم: الأزهر السمعلي ربما لا يعرف الكثير من التونسيين أن أول تونسي كتب في القانون العقاري بعد صدور أول قانون ينظمه، هو »الشيخ محمد بن عثمان بن محمد السنوسي« الذي ألف كتابا تحت عنوان: »مطلع الدراري في توجيه النظر الشرعي على القانون العقاري«. أراد صاحب هذا الكتاب أن يبحث في الأصول الفقهية لهذا الفرع من فروع القانون وأن يبحث عن الأساس في الشريعة الإسلامية التي يمكن أن تقوم عليها القواعد القانونية الجديدة. ويعود تاريخ وضع هذا الكتاب إلى أواخر القرن التاسع عشر ولكن لو كان صاحبه بيننا اليوم لاختار له عنوانا آخر حتى ينبه الشعب لا إلى الأصول الفقهية للقانون العقاري ولكن لما تأصل من فساد في أهم إدارة تونسية تشرف على الملكية العقارية. لا يتسع المقام هنا للحديث عن كل ما حصل داخل هذه الإدارة على مدى عقود من الزمن، ولكن لا بد من التركيز في هذه المرحلة من تاريخ تونس ومن تاريخ هذه الإدارة على الاعتصام الأخير لأعوانها. يبدو للملاحظ من خارج إدارة الملكية العقارية أن الأسباب التي أدت إلى الاعتصام المفتوح الذي تواصل منذ تاريخ 18 جويلية الماضي هي أسباب نقابية محضة. فقد تم التركيز في الرسالة التي توجه بها مسؤولو إدارة الملكية العقارية إلى الوزير الأول بتاريخ 16 جويلية 2011، على ضرورة مراجعة مقتضيات الفصلين الخامس والسادس من المرسوم عدد 56 لسنة 2011 المؤرخ في 25 جوان 2011 المتعلق بقانون المالية لسنة 2011، علما وأن الفصل الخامس من هذا المرسوم يقضي بإحالة مبلغ 140.000.000 دينار من موارد إدارة الملكية العقارية لفائدة ميزانية الدولة في حين ينص الفصل السادس من نفس النص على تحويل نسبة 30% من المداخيل المتأتية من توظيف المعلوم النّسبي المستخلص عند كل عملية ترسيم بالسجل العقاري لفائدة ميزانية الدولة أيضا. ويبرر دعاة الاعتصام ومنفذوه احتجاجهم بجملة من العناصر التي تبدو في الظاهر موضوعية بناء على الأرقام التي قدموها، كما تبرز في الظاهر ولكن في الظاهر فقط أيضا كرد فعل ضد إجراء اتخذته حكومة غير شرعية تواجه مدا ثوريا في كافة القطاعات بما في ذلك إدارة الملكية العقارية. ولكن المد الذي يظهر ثوريا هو نقيض الثورة تماما، فهو ليس مدا بل جذبا إلى الوراء ومحاولة بائسة للإبقاء على الأوضاع التي لن يستفيد منها سوى من استفادوا في السابق من الفساد من خارج إدارة الملكية العقارية ومن يتشبثون بتقديم الخدمات لهم داخلها. فالمفسدون مازالوا مصرين على الفساد ولكن تحت عباءة الثورة هذه المرة. ومن بين أبرز الأدلة على الوضع الذي بدأ الشعب التونسي يألفه هذه الأيام هو رفض عدد من الأعوان الذين تحولوا إلى »ثوريين«، لتعيين السيد أحمد الحافي وهو قاض من الرتبة الثالثة (كانت آخر خطة له بإدارة المصالح العدلية مدع عام) حافظا للملكية العقارية، فهو في نظرهم من خارج الإدارة، ولأنه كذلك سيكون عقبة أمام توزيع المسؤوليات داخلها على أسس عائلية بل وجهوية أحيانا. وهكذا، تصير الكفاءة ضربا للثورة وتتحول النزاهة جذبا إلى الوراء. ويكفي دليلا على هذه الثورية الجديدة هذه الأيام التكتم على ملفين من جملة ملفات عديدة، أحدهما يتعلق بالفساد بالإدارة الجهوية للملكية العقارية بباجة والثاني ولا يقل فسادا عن الأول يتصل بالتلاعب بالأوضاع العقارية في ولاية بن عروس. فهذان الملفان جاهزان منذ أواخر سنة 2010. ولكن جاءت الثورة وبعدها الإضراب وعلى إثره الاعتصام ومازالا رابضين في أدراج المسؤولين »الثوريين«. ويكفي دليلا كذلك على هذا المسار الثوري لمسؤولي إدارة الملكية العقارية نذكر ولاء حافظ الملكية العقارية السابق للقصر وحرصه شخصيا على تحرير العقود المتصلة خاصة بفساد المخلوع وعائلته وأصهاره. وكذلك تلاعب المدير العام للدراسات القانونية والنزاعات الذي تم تكليفه بنيابة حافظ الملكية العقارية، بالقرارات المصادق عليها قبل الثورة بإيعاز من المدير العام للمصالح المشتركة وهو رئيس الشعبة المهنية التي كانت قائمة ويبدو لا تزال، ولكن تحت عباءة الثورة والاحتجاج هذه الأيام. هكذا تتحقق أهداف الثورة في إدارة الملكية العقارية، ولعل وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية في حاجة إلى فتاوى جده حتى يفهم هذا الانقلاب في المواقع وهذا الانقلاب في المفاهيم. فمن يعطل مصالح المواطنين صار هو الثوري الحقيقي ومن تلاعب بالحقوق وتواطأ مع المفسدين صار رمزا للطهارة والبراءة، بل هو الذي يوزع صكوك البراءة والغفران. لو كان «الشيخ عظوم القيرواني» على قيد الحياة هذه الأيام لأفتى بمحاسبتهم أشد الحساب، ولو كان «الشيخ محمد عثمان السنوسي» بيننا بعد ثورة 14 جانفي 2011، لغير عنوان كتابه «مطلع الدراري في توجيه النظر الشرعي على القانون العقاري»، حتى ينبه الشعب التونسي إلى أن الدراري تطلع هذه الأيام على رموز الأيام التي خلناها بائدة.