آفاق العلاقة : بقلم: الأستاذ يوسف الرزقي* إن الأمور يمكن أن تبقى على ما هي عليه الآن أو تتطور في أحد اتجاهين: إما فك الارتباط كليا بالتشريع الإسلامي كما هو حال عديد الدول الغربية كفرنسا أو بعض الدول الإسلامية كتركيا مثلا وإما إعادة النظر في العلاقة بين المنظومتين على أساس جديد . إتجاه فك الارتباط : لا يزال للتيار المتغلب إبان الاستقلال أنصارا متحمسين لاختياراته لحد الآن بل هم مغالون في حماسهم للعلمانية شعارهم أن ما أنجز هام بالمقارنة مع الماضي لكنه غير كاف وهذه النخبة تجاهر بالدعوة إلى فك الارتباط كليا بالتشريع الإسلامي وذلك من خلال إلغاء آخر ما يظن أنه عقبة أمام التحديث الكامل فهناك دعوات من هنا وهناك للمساواة الكاملة في الإرث بين الجنسين وتسوية الابن الطبيعي بالابن الشرعي ورفع جميع التحفظات الواقعة على بعض المعاهدات الدولية بسبب الخصوصية الثقافية لتونس كدولة وشعب ينتميان إلى العروبة والإسلام وذلك فيما يتعلق خصوصا بالمرأة والطفل كما تشهد بعض الندوات حتى الدعوة إلى عدم تبني عبارة الإسلام دين الدولة أو الدعوة إلى إلغاء شرط ديانة الرئيس بل إن الأمر وصل إلى حد بعض الممارسات الاجتماعية المستهجنة من مثل علمانية الجنائز عند التأبين من خلال الامتناع عن تلاوة الفاتحة أو حتى الترحم على الميت عندما يكون أهل وأقارب وأصدقاء وزملاء المتوفى من العلمانيين الأصفياء ومثل هذا الاتجاه الفكري والسلوكي غير غريب على بعض النخبة في تونس التي شهدت تشجيعا على مواقف علمانية شاملة تهدف إلى استئصال الشعور والفكر الديني من القلوب والعقول فقد وصل الأمر أحيانا في العقود الأولى للاستقلال إلى حد سخرية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من بعض العقائد الإسلامية كالمعجزات المادية المذكورة بالقرآن تأييدا من الله لبعض أنبيائه ومن بعض الشعائر الإسلامية كالصيام والزكاة. إتجاه توثيق الصلة : إن التخلي المنهجي عن المرجعية الإسلامية لم يستأصل نهائيا من الضمير الجمعي علوية القاعدة القانونية الشرعية على القاعدة القانونية الوضعية والأدلة على ذلك كثيرة من ذلك موقف المحاكم عند فض الخصومات بين المتقاضين على أساس القانون الوضعي في مادة الأحوال الشخصية أساسا وفي مادة الالتزامات والعقود بصفة ثانوية فلقد حاول القضاة جاهدين الإبقاء على الوصل الموجود بين القانون الوضعي التونسي والتشريع الإسلامي على الأقل في مستوى تفسير وإتمام القاعدة القانونية في حالتي الغموض وسكوت النص في المادة المدنية بالمعنى الواسع للكلمة وكان فقه القضاء ملتصقا شديد الالتصاق باجتهادات الفقهاء المسلمين وذلك كنوع من المحافظة المبنية على القناعة أو حتى على رد الفعل كما أن عموم الناس يعتقدون لحد الآن في مرجعية التشريع الإسلامي في ميدان المعاملات الشخصية والمالية من ذلك تنامي المعاملات المالية غير الربوية . ويرجع رفض بعض النخبة للتشريع الإسلامي جزئيا إلى الجهل بعوامل السعة والمرونة الموجودة ضمن آليات الاستنباط من جهة ومحدودية النصوص القطعية قرآنا وسنة المتعلقة بالمعاملات مما يكون معه للاجتهاد مجال واسع من جهة أخرى فالتشريع الإسلامي كما يعلم ذلك خبراء القانون هو أحد الأنظمة القانونية الأربعة المعترف بها في تاريخ القانون وهو لا يقل قيمة من الناحية الأصولية والأحكام الفرعية عن أحدث الأنظمة والقوانين خصوصا اذا ما عاد الاجتهاد لأن»إن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية ولا يمكن للمتناهي أن يحد اللامتناهي لذلك علم أن «الاجتهاد أصل من أصول التشريع» كما قال الشهرستاني وخير دليل على أن العلم الموضوعي بالتشريع الإسلامي يفيد في تطوير القانون الحديث ما أثمره الزواج بينهما من إصدار مجلتين قانونيتين رائدتين في تونس هما مجلة الالتزامات والعقود ومجلة الأحوال الشخصية. أما ولع النخبة في تونس بالنموذج الفرنسي فعلاجه التخلي عن عقدة النقص والتمعن في اختلاف البيئتين وخصوصا ما تميزت به التجربة الفرنسية من عداء مستحكم مع الكنيسة وصل أوجه في المرحلة اليعقوبية التي جرمت التدين أصلا. كما يتجه الإقرار باختلاف الروح التي سادت تحت تأثير الوضعية وتلويناتها من أن الدين في انكماش مع الروح السائدة في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين والمصطبغة باتجاهات أكثر انفتاحا على تعقد الظاهرة الإنسانية بجميع أبعادها بما فيها البعد غير المادي فالأبحاث الإنسانية في الغرب اليوم تؤكد على ضرورة تجاوز نموذج نظرية العلمنة كما صاغها ماكس فيبر في اتجاه التخلي عن طابعها العقائدي بعد المراجعات العميقة لمصادراتها التاريخية التي تبين خطأها. في الختام الرأي عندي ضرورة تخلي التيار العلماني عن الموقف المتشنج إزاء الدين الذي يحاول فرض نظرته السلبية على جمهور المؤمنين وتخلي التيار المتدين عن الموقف العاطفي إزاء التراث الفقهي الذي يخلط بين التعاليم السماوية القاطعة ورودا ودلالة واجتهادات البشر النسبية. كما أرى أن المثقف الحقيقي المعبر عن مطامح الشعب لا يفوته أن الشعب التونسي متشوق اليوم للديمقراطية أكثر من تشوقه للعلمانية خصوصا في صياغتها الشاملة ومن واجب هذا المثقف أن يتساءل هل أن الاختيارات السابقة للسلطة السياسية في الميدان التشريعي كانت معبرة فعلا عن إرادة عامة بعد نقاش حقيقي وديمقراطي أم أن الأمر كان حصيلة القوة والحيلة. )انتهى( * رئيس سابق لجمعية المحامين الشبان