مجلة الأحوال الشخصية بقلم: الأستاذ يوسف الرزقي*إن مادة الالتزامات والعقود أقل حساسية من مادة الأحوال الشخصية من الناحية الدينية والاجتماعية لذلك لم تجد سلطة الحماية الفرنسية في العهد الملكي حساسية في تنظيم الأولى بينما أحجمت عن تنظيم الثانية خشية ردود الفعل العنيفة. لذلك لم تتسن إعادة تنظيم مادة الأحوال الشخصية بشكل جذري صلب مجلة عصرية إلا فجر الاستقلال لما تتطلب مثل هذه المبادرة من جرأة سياسية. ومنذ صدورها بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 1956 نالت هذه المجلة عناية خاصة أكثر من غيرها من القوانين نظرا لأثرها المباشر على التنظيم الاجتماعي من خلال نواته الأساسية وهي الأسرة والتصاق أحكامها الحميم بكثير من النصوص القرآنية والنبوية الصريحة فماهي الفلسفة التي نهض عليها تشريع الأحوال الشخصية بعد الاستقلال أمام الوضع الاجتماعي المتردي للمرأة المسلمة والأسرة المسلمة مثلما تعكس ذلك الدعوات الإصلاحية المتكررة في شأنها مشرقا ومغربا ؟ دونت مشروع المجلة لجنة مختصة ضمت بعض علماء الفقه الاسلامي إلى جانب آخرين وكانت الاختيارات توفيقية و اصلاحية فالمجلة كرست عديد الأحكام المستمدة من التشريع الاسلامي فيما يتعلق بأحكام المراكنة وشروط الزواج الجوهرية وموانع الزواج والطلاق والعدة والنفقة والحضانة والنسب والميراث وغيرها..وحتى ما لم يكن معروفا في الفقه الاسلامي وتم اقتباسه من التشريعات الأوروبية وخاصة التشريع الفرنسي فإنه جاء غير متعارض مع أحكام التشريع الاسلامي وإن كان معارضا لبعض العادات الاجتماعية , لقد ارتأى واضع المجلة أنه بتغير العرف يتغير الحكم من مثل تحديد السن القانونية للزواج قصد إنهاء زواج الصغار أو وجوب عقد الزواج بصفة رسمية عوضا عن الصيغة العرفية لأنه أضمن لحقوق الزوجة والأبناء وأضمن من حيث توفير استقرار الأسرة أو اعتبار الطلاق حكميا ووضع حد للطلاق العرفي الذي كان يخفي في كثير من الأحيان طلاق النزوة غير المتبصر رغم آثاره الوخيمة على الزوجة والأبناء. وتواصل العمل الإصلاحي التشريعي بعد صدور المجلة فمحرر مجلة الأحوال الشخصية في صيغتها الأولى سنة 1956 كان في عجلة من أمره لذلك كانت موادها في غاية الاقتضاب تناست مواد داخلة في مجالها مثلت نقصا يجب تداركه وهو ما تم فعلا بإصدار الكتاب المتعلق بالوصية سنة 1959 وبالهبة سنة 1964. بل إن المشرع عاد فحور بعضا من أحكام المجلة المستقاة من الفقه الإسلامي مطورا إياها في اتجاه الأحسن مثال ذلك تحوير أساس الحضانة من الإسناد الآلي حسب قائمة اسمية إلى مبدإ عام هو مصلحة المحضون سنة 1966 كما تواصلت التنقيحات فيما بعد من خلال إحداث الجراية العمرية سنة 1981 أو إلغاء واجب الطاعة وإرساء مبدأ المساواة بين الزوجين في الواجبات والحقوق وتغليب الحضانة على الولاية في بعض الصور بمقتضى القانون الصادر سنة 1993 . لكل ذلك لم تكن المجلة في الإجمال محل اعتراض من الطبقة العالمة بالتشريع الإسلامي لما تضمنته من مزج اختيارات محافظة على القديم وأخرى محدثة للجديد في أفق إصلاحي واحد استنادا إلى فهم مقاصدي للتشريع الإسلامي ويتجه التذكير في هذا المستوى بما جاء بكتاب الطاهر الحداد «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» باعتباره مصدر إلهام المشرع في المجلة وحتى للقيادة السياسية في اختياراتها غير التشريعية. فلقد ميز الكاتب بين ما جاء به الإسلام وما جاء من أجله لذلك لم ير تناقضا بين أفكاره الإصلاحية والشريعة الإسلامية.حقيقة الأمر أن أفكار الطاهر الحداد كانت متوائمة مع أفضل الاجتهادات الفقهية لمعاصريه من شيوخ جامع الزيتونة والديوان الشرعي من أمثال الحطاب بوشناق وعثمان بلخوجة وعبد العزيز جعيط ومحمد الطاهر بن عاشور وبلحسن النجار وأحمد بيرم وخير دليل على ذلك أجوبة المذكورين على 12 سؤالا حول المرأة في خصوص الزواج والطلاق والمساواة والمال والولاية والحجاب طرحها عليهم الطاهر الحداد ثم استهلم من أجوبتهم مادة دعوته الاصلاحية. لكن التوفيق بين الثابت من أحكام التشريع الإسلامي والمبادئ الجديدة المستلهمة من القوانين الأوروبية كانت له حدود فالتوفيق لم يكن مبنيا حقيقة على الإقناع المتبادل في كل الأحوال بل كان ذرائعيا بين التيارين التقليدي والتحديثي في صور عدة مثال تسمح لي بتمرير إلغاء جبر الإناث على الزواج فأسمح لك بالإبقاء على موانع الزواج كما هي . إن التعايش بين النزعتين لم يكن على نسق واحد فقد تم أحيانا فرض إرادة سياسية في خصوص بعض الأحكام ولو كان في ذلك خروجا صريحا عن أحكام التشريع الاسلامي من حيث النصوص المؤسسة له قرآنا وسنة لاختلاف موازين القوى لصالح النخبة الحديثة لذلك عبر الشيخ جعيط عن عدم رضاه عن الصيغة النهائية للمجلة واعتبرها مخالفة للتشريع الاسلامي وهو ما ألجأ السلطة السياسية إلى إصدار التوضيحات تلو التوضيحات للتأكيد على عدم تعارض المجلة مع أحكام الفقه الإسلامي ويمكن تخمين محل الاعتراض الأساسي على المجلة من المتمسكين بالتشريع الاسلامي في أمور خالف فيها المشرع التونسي النص الصريح مثال ذلك منع تعدد الزوجات واعتبارها جريمة يعاقب عليها بالسجن أولا واعتبار الطلاق ثلاثا مانعا أبديا ثانيا ذلك أن هذين الأمرين يعارضان النص القرآني الصريح في الإباحة. (في خصوص الأولى قوله تعالى:»وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع « الآية 3 من سورة النساء. وفي خصوص الثانية قوله عز وجل :»فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون» الآية 228 من سورة البقرة ). وقد كان من الممكن اعتماد حلول أخرى في خصوص الحد من مساوئ تعدد الزواج من مثل تقييد الزواج بثانية بموافقة الأولى أو موافقة القاضي والاكتفاء بالجزاء المدني وهو بطلان الزواج الثاني دون تتبعات جزائية هذا مع التأكيد على حقيقتين قد تخفيان على عموم الناس الأولى شرعية مفادها أن المباح ليس واجبا دينيا وأن من حق ولي الأمر تقييد الواجب والثانية واقعية مفادها أن الوعي الاجتماعي التونسي مناهض للتعدد وهذا أمر طبيعي لأن الأصل في الأمور اكتفاء كل واحد من الزوجين بالآخر والتعدد خروج عن الأصل كما كان من الممكن الحد من ظاهرة زواج «التياس» وذلك باشتراط انقضاء مدة معينة على طلاق المطلقة ثلاثا من زوجها الثاني للرجوع للأولى او إبطال زواج المحلل لعدم جدية الرضا يضاف لما ذكر في المثالين أعلاه الواردين بالمجلة مثال آخر من خارجه إجازة التبني بمقتضى القانون عدد 27 لعام 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني. وهذا مثال معاكس للمثالين المتقدمين لأنه أحل ما وردت آية صريحة في تحريمه وهي قوله عز من قائل :»وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين». الآيتان 4 و 5 من سورة الأحزاب. وقد كان من الممكن اكتفاء المشرع بالكفالة دون ترتيب آثار نسب على من هو ليس بولد الصلب . * رئيس سابق لجمعية المحامين الشبان