بقلم: د.عمر الزعفوري لا نأتي بجديد عندما نقول أنه سبق لنا سنة 2004 أن تطرّقنا إلى الحديث عن أزمة العلوم الإنسانية في إطار ملتقى علمي نظمته جامعة «باتنة» بالجزائر وتمّ نشر أشغاله بمجلة «عالم التربية» المغربية تحت عنوان «راهن العلوم الإنسانية : أي نموذج تربوي؟» وتحديدا بالعدد 16 من سنة 2005. في هذا المقال الذي أوردناه تحت عنوان «واقع العلوم الإنسانية: أزمة علم أم أزمة مجتمعات؟» حاولنا أن ننتصر لفكرة أنّ واقع هذه العلوم إنما هو ترجمة لأزمة بنيوية تعيشها مجتمعاتنا المغاربية خصوصا والمجتمعات العربية عموما، وهو ما جعل الحكومات القائمة تسعى جاهدة إلى تهميش الإنسانيات والتعامل معها على أنها اختصاصات لا ينتظر منها أن تساهم في تنمية المجتمعات لأن التنمية في قاموس الحكام العرب لا تقاس إلا بالأرقام ولا معنى عندهم للتنمية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية. الجديد هو أننا نعيد طرح نفس الموضوع ولكن في سياق تاريخي جديد تسقط فيه عروش أولئك الحكام الواحد تلو الآخر وبعضها سائر في نفس الطريق لأن الأزمة لم تعد مجرد أزمة مؤسسة جامعية وإنما هي أزمة المنظومة المجتمعية برمّتها. فالتغيير جذري أولا يكون والثورة هي الحل البديل. ففي خضم الزلزال الذي عرفته تونس الثائرة تفاعل طلاب علم الاجتماع بالجامعة التونسية، كغيرهم من طلاب بقية الإختصاصات الجامعية الأخرى ،مع هذا الحدث رافعين إلى أقصى حدّ سقف مطالبهم ومتمسكين أكثر من أي وقت مضى بضرورة تحققها مما أفضى إلى مقاطعة الدروس التي سيكون لها بلا شك انعكاسها على تكوينهم العلمي. ونحن، إذن نشاطرهم مبدأ المناداة بتحقيق مطالبهم التي تبقى مشروعة، نخالفهم الرأي في تحديد المطالب لأن معالجتهم للمسألة تبقى سطحية ذلك أن استجابة الحكومة لتلك المطالب - إن حدث ذلك- لا تعتبر في نظرنا حلا جذريا إذ أن تشغيل خرّيجي التعليم العالي، ومنهم طلاب علم الاجتماع ،وبعث قانون أساسي خاص بهذا الاختصاص لن يغير من حقيقة الأزمة شيئا. فهذه الأخيرة مرتبطة بسياسة تربوية لا تؤمّن لطلبة علم الاجتماع وبقية الطلاب تكوينا علميا متينا يمكّنهم من أن يكونوا أداة تنمية في بلاد هي في أشد الحاجة إلى طاقات علمية وإلى باحثين من ذوي الكفاءات العالية. فمطالب طلبتنا تعيد إنتاج منطق المنظومة التي جاءت الثورة لمحوها ذلك أنها تصب في إطار الاعتراف بما أرسته تلك المنظومة من أن الزيادة في عدد أصحاب الشهائد العليا، ومنهم طلبة علم الاجتماع، هو أحد متطلبات التنمية. بلغة أخرى،اعتبر ارتفاع عدد خريجي التعليم العالي مقياسا هاما من مقاييس التنمية في بلادنا إلا أن هذه السياسة لم تفض إلا إلى مأزق لا تزال البلاد تتخبط فيه إلى اليوم: تضخم عدد أصحاب الشهائد العليا قابله عجز المنظومة الاقتصادية عن استيعابه مما زاد في تعكير الأوضاع التي تنتصب اليوم عائقا أمام ثورة ننتظر منها الكثير: فكيف يستجيب اقتصاد هشّ ومشلول لمطالب تشغيل يتمسك أصحابها بضرورة الاستجابة الفورية وفي الآماد القصيرة؟ هذه السياسة التربوية التي لا تستند إلى أية ثوابت («سياسة مشّي حالك») حوّلت جامعاتنا ومعاهدنا إلى محتشدات تخرّج أجيالا متماثلة في التفكير والتكوين لأن عملية التوجيه أصبحت مجرّد عملية تقنية تهدف إلى سدّ الثغرات في الجامعات ولا تراعى فيها ميولات الطلبة وكفاءتهم المعرفية. فالطلاب الذين يوجّهون إلى شعبة علم الاجتماع، على سبيل المثال، هم أولئك الذين لم يجدوا مكانا في شعب أخرى ينظر إليها على أنها أفضل من شعبة علم الاجتماع. فكيف سنتوصّل إلى تكوين باحثين في علم الاجتماع إذا كانت الأغلبية الساحقة لا تجيد أية لغة من لغات التدريس ولا تقرأ مقالا علميا واحدا على امتداد سنوات التدريس؟ أفضع من كل ذلك أن الأستاذ «المتميز» و»الجيد» هو «الأستاذ المتساهل» في إسناد الأعداد والذي يحوّل عمله تدريسا وتقييما إلى عملية «انتشال اجتماعي» حتى أن الجهويات تفعل فعلها في هذا المجال. مقابل ذلك يصبح الأستاذ الجاد والحازم «جزّارا» وقد يناصبه الطلبة العداء لأنه ليس كالآخرين. هذه المطالب المرفوعة اليوم من قبل طلاب علم الاجتماع في جامعاتنا، حتى وإن تحققت، لن تغيّر من حقيقة الأمر شيئا وستظل دار لقمان على حالها. ما العمل إذن؟ إن سياسة «عدم ربط التكوين بالتشغيل» التي اتبعتها الدولة في تونس على امتداد العشريتين الفارطتين كلمة حق أريد بها باطل. فهي في ظاهرها تخفيف الأعباء عن الدولة والقطاع العام لعدم القدرة على الاستجابة لكل طلبات الشغل ولكنها، في الحقيقة، ضرب من الخضوع لإملاءات العولمة التي حولت الدولة إلى مجرد أداة في يد الرأسمال المتعدد الجنسية. في هذا السياق تمت «جمهرة» التعليم وفقدت الشهائد العلمية قيمتها و همّش حملة الشهائد الذين دعموا جيش العاطلين عن العمل. معنى ذلك أن الحل يكمن في إعادة النظر في هذه السياسة وبالتالي في التخلص من روابط التبعية التي فرضتها علينا العولمة ولا تزال كما أن الثورة اليوم لا بدّ أن تشمل كل المجتمعات التابعة، وتحديدا المجتمعات العربية، لفك هذا الارتباط وحتى لا تظل ثورتنا في تونس معزولة ومهددة باستنجاد بعض جيراننا بالقوى الأجنبية للحفاظ على العرش. إذا أعيد النظر في هذه السياسة سيتعلق مطلبنا في التعليم بتأمين سياسة تربوية تكفل تكوينا علميا صارما يراعي فيه الجانب الكيفي لا الكمي. بكلمة أخرى، عندما لا تتجاوز نسب النجاح في الجامعة 20 أو 25 بالمائة سيعاد الاعتبار إلى الشهادة العلمية وسيحتل علم الاجتماع وغيره من الاختصاصات المكانة التي تليق به ليصبح التعليم آنذاك أداة تنمية. الأصل في الهرم التربوي أن تكون النخبة قليلة العدد وأن تتسع القاعدة السفليّة للهرم ليستخدم البقية الباقية كإطارات متوسطة وصغيرة لا العكس. لا ندعو إلى الانتقاء وإنما لأن منطق الأشياء اليوم يفرض علينا ذلك. إن إعادة امتحانات الشفاهي إلى الجامعة من شأنها أن تكون أداة تمييز بين الطالب الذي يصلح للبحث العلمي والطالب الذي لا يتجاوز مستوى الإجازة وبإمكانه أن يشتغل في حقل آخر غير حقل البحث العلمي والتدريس بالجامعة. ليس من قبيل الصدفة أن لا يتطرّق طلابنا إلى هذا النوع من المطالب لأن ذلك يعتبرونه إقصاء للأغلبية من سوق الشغل ولأن الثقافة التي غرسها فيهم نظام بن علي لا تزال فاعلة فيهم إلى اليوم. هم، في نهاية المطاف، حصيلة سياسة تربوية كيّفها أصحاب النفوذ في تونس ما قبل 14 جانفي مع متطلبات العولمة خدمة لمصالح العصابة الحاكمة. نخلص إلى القول بأن ثورتنا فجّرت جملة من المطالب في كلّ قطاعات الحياة الاجتماعية، وهي كلها مطالب مشروعة لارتباطها بالمعيش اليومي للناس،إلا أن تلك المطالب قد تعيد إنتاج نفس المنظومة التي كانت سببا في قيامها. أخشى ما نخشاه أن تحفر الثورة قبرها بنفسها وأن تنقلب على ذاتها ما دامت المطالب منعقدة حول الهموم الشخصية وما دام الناس يفكرون بمنطق «اليوم خمر وغدا أمر». لهذا نقول أن المرحلة الراهنة في هذه الثورة هي مرحلة نخب المجتمع لنتمكن من وضع السياسات الكفيلة بإخراجنا من هذا الوضع وبالقطع مع ما قدّمه لنا حزب التجمع اللادستوري واللاديمقراطي على أنه قدر محتوم. هل تعني دعوتنا إلى الحلول الجذرية أن مشكل التشغيل القائم حاليا لا معنى له؟ في هذا الصدد لا بدّ من الإشارة إلى أن الدولة في تونسالجديدة ستواجه تحدّيا صعبا لإيجاد سبل إدماج لكل ضحايا السياسة التربوية الفاشلة ولا بدّ لها من إنجاز ذلك إن أرادت أن تعطي لنفسها فرصة البناء من جديد ويبقى الحل الذي طرحناه حلا على المدى الطويل يهيّء لبناء مجتمع جديد.