ركزت المخططات التنموية التونسية منذ عقود على عديد المحاور الاقتصادية وأولت التشغيل الكامل والدائم لقوى العمل الاولوية وجعلته حجر الزاوية لأية عملية إنمائية، فتعددت آليات التحفيز والمرافقة بالترفيع في سقف القروض المسندة من طرف البنك التونسي للتضامن وإحداث بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة والاعداد والتأهيل لبعث مؤسسة. وقد أكد المخطط الحادي عشر للتنمية بالخصوص على مزيد إحداث مواطن الشغل (412.000 موطن) والتخفيض من نسبة البطالة من 14.3% إلى 13.4 بحلول 2011. ومن البرامج المختلفة الداعمة لهذه الاستراتجية نذكر تعزيز التكامل بين أنظمة التربية والتكوين والتعليم العالي،وتفتحها على سوق الشغل وبطريقة موازية ترسيخ ثقافة المبادرة. ففي ظل هذه المعطيات تتبادر إلى أذهان التربويين عدة تساؤلات حول دور المدرسة في إرساء ثقافة المبادرة وإعداد الناشئة وتأهيلها وجعلها قادرة على رفع التحديات، ولعل من أهم هذه التساؤلات: ما هي البدائل المطروحة اليوم على المجتمع بصفة عامة وعلى المدرسة على وجه الخصوص، في ظل التزايد المطرد لعدد التلاميذ وعدد خريجي الجامعات مع تقلص فرص التشغيل، لاسيما في القطاع العمومي؟ ما هو دور المدرسة في إكساب التلميذ ثقافة المشروع بهدف الانتقال من عقلية الانتظار والاستهلاك إلى عقلية المبادرة والخلق والابتكار؟ ما الذي دفع البلدان الاكثر تقدما كالولايات المتحدةالامريكية وكندا، إلى تركيز التربية على المبادرة، ليس فقط كنشاط مواز في شكل نواد، ولكن صلب التعلمات الاساسية وذلك منذ مراحل التعليم الاولى وصولا إلى الجامعات؟ يؤكد القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي على أن المدرسة مطالبة، ضمن وظيفتها التأهيلية بتزويد الناشئة بالمكتسبات الضرورية التي تمكنها من الاندماج الناجح في عالم الشغل لاحقا وبإكسابهم "القدرة على استثمار المعارف والمهارات... لتدبر البدائل والخيارات في حل المسائل التي تعرض لهم والتكيف مع المتغيرات والمبادرة والابتكار..."(1) وفي نفس الاطار يتعرض الامر المنظم للحياة المدرسية لمفهوم المبادرة ويوليها أهمية خاصة ويدرجها على رأس قائمة الكفايات والمهارات الموازية. ومن جهة أخرى نجد أن السياق الاقتصادي يدعم هذا الخيار، خاصة إذا ما علمنا بأن 98% من المؤسسات الاقتصادية التونسية تشغل أقل من 10 أجراء، وهي تعتبر حسب المعايير الدولية، مؤسسات صغرى (Micro-entreprises) وتؤمن ما يناهز 25%من نسبة التشغيل في البلاد وحوالي 30% من الانتاج، وهذا يعني أن تشجيعها ودعمها يعد رهانا أساسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ولقد بينت الدراسات أن هذه المؤسسات الاقتصادية تتميز بالهشاشة لغياب التملك الادنى للمبادئ التقنية اللازمة، وكذلك لغياب كفايات المبادرة بالمعنى الشامل للكلمة ( تنظيم وتخطيط وتمويل وتسويق). فالتربية على المبادرة في الوسط المدرسي تأتي دعامة للمجهودات القائمة على المستوى الوطني والمعبر عنها صراحة في مختلف خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونخص بالذكر، المخطط الحادي عشر للتنمية. وفي هذا الاطار بالتحديد، يتنزل برنامج التربية على المبادرة. وهو برنامج ذو أبعاد تربوية أفقية، يهدف إلى إكساب التعلمات معنى ملموسا وتطبيقيا. فثقافة المبادرة ترمي أساسا إلى إكساب التلميذ مبادئ مقاربة المشروع وتنمية الوعي بأهمية الممارسة لديه. إذ أن تجارب المشاريع التي يعيشها المتعلم، والتي يجد فيها استقلالية متنامية، تعوده على أن يكيف تمشيه حسب خصائصه الذاتية. كما تمنحه هذه التجارب الفرصة ليحدد بنفسه مراحل إنجاز مشاريعه والاستراتيجيات الملائمة لانجاحها وتقييمها. كما يمكَن هذا التوجه التلميذ من تطوير قدراته الشخصية، وتنمية كفاية المبادرة لديه، وتعويده على استيفاء إنجاز مشاريع أخرى كمشروعه الدراسي، ومشروع توجيهه إلى المسالك والشعب على وجه التحديد. وهكذا تصبح ثقافة المبادرة وفق هذا المنظور الجديد، جملة من الخصال والقدرات والمهارات تعبر عن قوة الارادة والانخراط الكلي في ما نعتزم إنجازه والمضي فيه حتى النهاية. ومن هذه الخصال الواجب تنميتها: الثقة بالنفس والقيادة والعمل الجماعي والدافعية والشعور بالمسؤولية وبذل الجهد والاستشراف والابداع والاصرار والمثابرة. فهي لا تقتصر على بعث مؤسسات جديدة، بل تتجاوز ذلك لتصبح ثقافة واتجاها أشمل وأعم يمكَن الفرد من التفكير بطريقة مغايرة في مجال حياته الشخصية والمهنية وفي حدود طاقاته وحسب إمكانياته. فالتربية على المبادرة وبناء المشاريع مقاربة تربوية وتصميم بيداغوجي في آن واحد إذ يعتمد هذا الاسلوب من التعلم على حفز التلاميذ على البحث والتقصي، ووضع أسئلة محورية وجوهرية وجيهة تنمي لديهم منهجية البحث وتشجعهم على إظهار كفايات ذهنية، تسمح بتوسيع دائرة معارفهم من النظري إلى التطبيق، كما تذكي روح التعاون بين المتعلمين لانجاز مشاريعهم. فيجد المتعلم نفسه، بهذه الصفة في قلب العملية التعلمية: ففي حين يلعب المدرس دور الموجه والمسيّر في عملية تصميم هذه المشاريع وتنفيذها، يحتل التلميذ مكانا أساسيا في الفعل التربوي، إذ يتولى بناء المعرفة بنفسه منخرطا بذلك في بيداغوجيا تشاركية مبدؤها الممارسة. وفي هذا الاطار وعلى ضوء هذه المبادئ تمّ إعداد برنامج نوادي المبادرة وبناء المشاريع من طرف وزارة التربية والتكوين بالتعاون مع "الجمعيّة التونسيّة للمبادرة والافراق".منذ سنة 2007. وقد احتضن المركز الوطني لتكوين المكوّنين في التربية بقرطاج هذا البرنامج، وكلّف مجموعة من المرشدين في الاعلام والتوجيه المدرسي والجامعي بعد تكوين خاص، بإنجاز دليل أوّل لتكوين المكوّنين في المبادرة ودليل ثان لمنشّطي نوادي المبادرة وبناء المشاريع. وقد انطلقت منذ بداية هذه السنة وفي كل الجهات( بمعدل مدرستين إعداديتين في كل جهة) نواد للمبادرة وبناء المشاريع ينشطها أساتذة متطوعون ومتحمسون للمضي قدما في هذا التمشي ولبلوغ الاهداف البيداغوجية والتربوية المرسومة. أملنا أن تتضافر جهود كل المتدخلين المباشرين أو غير المباشرين لرفع التحدي وإنجاح هذا البرنامج المجتمعي الرائد. (*) مرشد أول في الاعلام والتوجيه المدرسي والجامعي بنزرت -------- (1) القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي الفصل العاشر