ألقى الاستاذ البشير التكاري وزير العدل وحقوق الانسان أمام طلبة المرحلة العليا والوسطى بالمدرسة الوطنية للادارة محاضرة بعنوان "حقوق الانسان ومخاطر التوظيف" وذلك يوم الاربعاء 19 نوفمبر الجاري بمقرّ المدرسة بحضور السيد عفيف الهنداوي مدير المدرسة وبعض الشخصيات الوطنية والاساتذة الجامعيين وإطارات هيئة التدريس بالمدرسة وموظفين سامين من مختلف الوزارات والهياكل والمؤسسات. وبيّن الوزير في المحاضرة أنّ تحوّل السابع من نوفمبر 1987 اقترن بتطوير حقوق الانسان وحمايتها من ذلك أنّ من أوّل القوانين الصادرة بعد التحول هو قانون 26 نوفمبر 1987 الذي نظّم لاوّل مرّة في تونس آجال الاحتفاظ والايقاف التحفظي وكان ذلك منطلقا لعديد الاصلاحات التي بلغت إلى مستوى الاقرار الدستوري لمكانة حقوق الانسان من خلال التعديل الدستوري في غرّة جوان 2002 الذي بادر به سيادة الرئيس زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية التونسية حيث تمّ التنصيص ضمن الفصل الخامس من الدستور على أنّ "الجمهورية التونسية تضمن حقوق الانسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها". اعتراف دولي بمنجزات تونس وكانت الاصلاحات التشريعية والانجازات التي أقدمت عليها تونس في مجال حقوق الانسان محلّ إقرار دولي من خلال تنويه لجنة حقوق الانسان والخبراء المختصين بالانجازات والجهود التي تقوم بها تونس في مجال حقوق الانسان رغم وجود عراقيل لا ترجع أسبابها للدولة ولكن إلى توظيف حقوق الانسان من قبل بعض المتطرّفين وأشارت إلى أنّ الخروقات وإن وجدت فهي تظلّ استثنائية. كما كان وضع حقوق الانسان في تونس محلّ إشادة من قبل مجلس حقوق الانسان بجنيف. ونبّه الوزير إلى أنّ العالم يواجه اليوم مخاطر التوظيف لحقوق الانسان الذي يمارسه من أطلقوا على أنفسهم صفة المدافع عن هذه الحقوق سواء كان هذا المدافع منظمة غير حكومية أو أفرادا نصّبوا أنفسهم مدافعين عن حقوق الانسان، ولم يكلّفهم أحد بذلك. لكن هذه الاستثناءات لا يجب أن تحول دون الاقرار بالدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية في مجال الدفاع عن حقوق الانسان وحمايتها يظلّ هاما غير أنّ النجاح في القيام بهذا الدور يقتضي التنبيه دائما إلى مخاطر التوظيف المسكوت عنها والتي يمكن أن تتّخذ أشكالا ثلاثة. مخاطر التوظيف ويتجلّى الشكل الاول لهذه المخاطر في اختراق المنظمات غير الحكومية من قبل عناصر ومجموعات لا تؤمن بحقوق الانسان، وقد نبّهت الجمعية العامة للامم المتحدة في هذا السياق المجموعة الدولية إلى خطر التوظيف حيث أكّدت صراحة في قرارها المؤرخ في 15 مارس 2006 الذي تمّ بموجبه إحداث مجلس حقوق الانسان على وجوب أن يعمل المجلس على "تأمين العالميّة والموضوعية وعدم الانتقائية" و"وضع حدّ لممارسة التعامل بالمكيالين ولكلّ تسييس" وهو تأكيد جاء تبعا لممارسات تمثّلت بالخصوص في اختراق المنظمات غير الحكومية من قبل عناصر أو مجموعات متطرّفة ومجموعات انتهازيّة. ويكون هذا الاختراق من قبل عناصر ومجموعات متطرّفة اقترنت بإيديولوجيات سواء كان مصدرها عرقيّ مثل النازية أو دينيّ مثل بعض الحركات الكنسية في القرون الوسطى أو بعض التنظيمات الاسلاموية أو بعض حركات أقصى اليسار التي غاب عنها أنّ حائط برلين سقط منذ سنوات. وأشار المحاضر إلى أنّ هذه العناصر والمجموعات عمدت في العديد من البلدان إلى الالتحاف بغطاء حقوق الانسان من خلال المنظمات غير الحكومية بعد أن اقتنعت بمحدودية إشعاعها ورفض إيديولوجيتها من طرف المحيط الذي تعيش فيه. حقوق الانسان في خدمة الايديولوجيا وقد أرادت هذه العناصر والمجموعات من خلال اختراقها للمنظمات غير الحكومية تحقيق غايتين أوّلها تقديم نفسها على أنّها تدافع عن حقوق الانسان والحال أنّ منطلقاتها الايديولوجية تقوم على نكران حقوق الانسان كيفما عبّرت المواثيق الدولية وثانيها الزجّ بمسألة حقوق الانسان في صراعها مع السلطة السياسية في بلد ما فيغيب الصراع الحضاري ويظهر كأنّه صراع حقوقي في مجال حقوق الانسان. وبيّن الوزير أنّ الانتماء السياسي لا يمثّل في حدّ ذاته حاجزا دون العمل في المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان لكنّه لا يجب أن يكون هو الهدف من التواجد في هذه المنظمات. ومن هذا المنطلق حرص المشرع التونسي على الفصل بصفة واضحة بين العمل الجمعياتي الذي يخدم الغاية التي أنشئت من أجلها الجمعية والعمل السياسي الذي يتمّ في إطار الاحزاب السياسية وفي إطار قواعد المنافسة السياسية، وقد كرّس قانون الجمعيات هذه التفرقة التي لم ترق للبعض لانّها تفضح إستراتيجياتهم وتكشف القناع عن توظيفهم للجمعيات في خدمة انتماءاتهم السياسية. وأشار الوزير إلى أنّ هناك أمثلة عديدة في العالم تبيّن أنّ بعض العناصر والمجموعات الانتهازية تعمد إلى اختراق المنظمات الانسانية لخدمة أغراض انتهازية مثل الاستغلال الاقتصادي أو الجنسي للاطفال مثل ما قامت به إحدى المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال إغاثة اللاجئين التي تعنى بالطفولة خلال سنة 2002 في بعض دول غرب إفريقيا من توظيف المساعدات الغذائية والادوية من أجل الابتزاز الجنسي لفتيات إفريقيات وكذلك ما أقدمت عليه إحدى المنظمات الانسانية الغربية في التشاد خلال سنة 2007 من خطف لعدد من الاطفال تحت ستار العمل الجمعياتي الانساني لينتهي الامر إلى إلقاء القبض على عدد من أفراد هذه المنظمة ومحاكمتهم من أجل ضلوعهم في أعمال الخطف. استبدال الحياد بالانقياد ويتّضح الشكل الثاني لمخاطر التوظيف لحقوق الانسان في استبدال الحياد بالانقياد لدى بعض المنظمات غير الحكومية من خلال حصولها على تمويلات مشبوهة تسقطها في فخ التبعية لبعض الدول والجهات وتعصف بقاعدة الشفافية لديها ولعلّ أبرز مثال لذلك رفض المجلس الاقتصادي والاجتماعي للامم المتحدة طلب منح الصفة الاستشارية بالمجلس لاحدى المنظمات الآسيوية غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الانسان بسبب رفضها موافاة المجلس بكشف لحساباتها المالية وفي الاموال التي تلقتها من إحدى الدول. وأشار المحاضر إلى لجوء بعض الاشخاص ومنهم من كان صاحب سوابق عدلية في قضايا حقّ عام إلى تقديم أنفسهم كمدافعين عن حقوق الانسان معتبرين أنّ هذه الصفة تمنحهم حقوقا أكثر من الاخرين وتبيح لهم خرق القوانين وعدم التقيّد والالتزام لا فقط بالقوانين المنظمة للحريات العامّة مثل الاجتماعات والتظاهرات بل كذلك بالقوانين التي تحمي كرامة المواطنين فيستبيحون ثلب الاشخاص تحت شعار الدفاع عن حقوق الانسان. وبيّن أنّ من حقّ المدافع الموضوعي والمحايد عن حقوق الانسان أن ينقد القوانين ويسعى إلى تنقيحها لكن عليه أيضا احترامها مادامت لم تنقّح مؤكّدا أنّ المدافع عن حقوق الانسان يكون أوّل منتهك للاعلان العالمي لحقوق الانسان عندما يعتبر أنّ له حقوقا أكثر من غيره مذكّرا بما جاءت به المادتين الاولى والثانية من هذا الاعلان من قيم أساسية تكرس مبدأ المساواة وعدم التمييز في التمتع بحقوق الانسان والحريات الاساسية. استغلال آليات الحماية وتطرّق إلى ثالث الاشكال المتعلقة بمخاطر توظيف حقوق الانسان والمتمثل في استغلال آليات الحماية من قبل الممتهنين لحقوق الانسان الذين يتعمّدون بطريقة حرفيّة توظيف مفاهيم وآليات الحماية الفعلية لحقوق الانسان التي جاء بها القانون الدولي اعتبارا لما تدرّ عليهم هذه الحقوق من منافع عينيّة ومالية لا تخفى على أحد. وتوقّف الوزير عند توظيف مفهومي الانتهاكات المنهجية والمحاكمة العادلة مؤكّدا أنّ المجموعة الدولية أقرّت، سواء من خلال الهيئات الاممية والاقليمية أو حتى من خلال بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، بأنّه لا تخلو دولة من انتهاكات حقوق الانسان مثل انتهاك حقّ التعبير وحقّ الاجتماع وحرمة المسكن وفرّقت بين الانتهاكات المنعزلة التي تكون عادة نتيجة تصرفات ومبادرات فردية لبعض الموظفين المكلفين بتنفيذ القوانين والانتهاكات الممنهجة التي تعكس إرادة السلطة خرق حقوق الانسان. وبيّن في هذا السياق أنّ المجموعة الدولية أقّرت غياب الانتهاكات الممنهجة في تونس وأنّ الانتهاكات الفردية إن وجدت فإنّها تؤول إلى عقاب تأديبي أو جزائي، إلا أنّ بعض التنظيمات والاشخاص يسعون، سواء في تونس أو في غيرها من الدول، وعبر توخّي أسلوب التحريف الواضح للوقائع إلى السّعي لتقديم الانتهاك المنعزل على أنّه انتهاك متكرّر لاضفاء صفة المنهجية عليه مستشهدا ببعض الامثلة التي فضحت تنظيمات وأشخاص نصّبوا أنفسهم مدافعين عن حقوق الانسان وكشفت افتراءاتهم واختلاقهم لوقائع وأسماء لا وجود لها في الواقع ممّا دفع ببعض المنظمات الدولية غير الحكومية إلى الاعتذار للسلطات التونسية عن تورّطها في نقل أخبار لم تكن إلا محض اختلاق. مدونة دولية وأكّد الوزير أنّ هذا الموقف من هؤلاء لا يجعلنا نتراجع عن خياراتنا إيمانا منّا بأنّ مثل هذه التوظيفات إنّما هي معطى ظرفي سيؤول إلى الزوال أمّا الخيار الهيكلي فيظلّ باق، واختتم محاضرته مؤكّدا أنّ تطوّر حقوق الانسان وحمايتها تقتضي حياد المدافعين عنها سواء كانوا منظمات أو أشخاص ورفض التمويلات المشبوهة وبالتالي أصبح ضروريا وجود مدوّنة دولية تفرض الاعلان والاطلاع على ميزانيات المنظمات غير الحكومية قبل التعامل معها من قبل الهيئات الاممية والاقليمية معتبرا أنّ الحكم على الجمعيات بالانقياد لا يجب أن يكون مطلقا فالكثير من الجمعيات تتطوّر وتقاليد الحياد تتأصّل فيها بصفة تدريجيّة.