على بعد مسافة تناهز 300 كلم من تونس العاصمة، وعلى طريق الرابطة بين المكناسي والرقاب، تقع مدرسة "ابن عمر" ل"تدريس القرآن".. مدرسة "منعزلة" تؤوي أطفالا من أعمار مختلفة "يعتكفون" بها لأشهر، بل لسنوات (أحدهم قضّى بهذه المدرسة خمس سنوات حيث دخلها وسنّه لا يتجاوز 7 سنوات) لم تلفت انتباه أحد، ولم تثر لا شكوك السلطات الجهوية ولا المحلّية، وظلّت طوال سنوات، يُغتصب فيها فكر وجسد وروح هؤلاء الأطفال دون أن يحرّك أحد ساكن بمن في ذلك أولياء الأطفال! وكانت "مأساة" هؤلاء الأطفال ستستمرّ لو لم يبث تحقيق برنامج "الحقائق الأربع" الذي أماط اللثام وكشف "نتوء" جبل الجليد، لتتسارع الأحداث وتُكشف حقائق صادمة حول ما كان يحصل داخل هذه "المدرسة".. وقتها فقط تحرّكت أجهزة الدولة ومؤسساتها للتحقّق من "المأساة".. ووقتها فقط انتبهت الحكومة ونواب مجلس الشعب الى رجع صدى "الوجع والأنين المكتوم" القادم من مدرسة الرقاب.. انتبهت الى تلك الاستغاثات الصامتة والى أولئك الأطفال الذين كانوا في النهاية "ضحايا" للجميع.. ضحايا لعائلات تحمل أفكارا متشدّدة.. ضحايا لأجهزة دولة متقاعسة ومصالح مقصّرة ومسؤولين لا يغادرون مكاتبهم.. ضحايا لمجتمع "استكان" في محاربة الفكر المتطرّف الى الحلول الأمنية ولم يبحث أبدا مسألة الأمان الفكري والمجتمعي والتربوي في مكافحة ظاهرة التطرّف التي تغلغلت واستشرت داخل هذا المجتمع وخاصّة في الأحياء الفقيرة والهامشية وفي المناطق الحدودية والداخلية وفي التجمعات السكانية المعزولة ولم تقتصر على جبال الشعانبي وسمامة ومغيلة كما يعتقد البعض.. أطفال ضحايا دولة تم استنزافها وإنهاكها واختراق مختلف أجهزتها، وضحايا هيئات ومنظّمات حقوقية ومدنية انحازت إيديولوجيا وانشغلت ب "العراك الهوّياتي" المتشنّج والأجوف، ضحايا سياسيين عجزوا الى اليوم عن بلورة مشروع مجتمعي وطني يقطع مع مرحلة "تشنّج الهوّيات" الذي بدا من الواضح أن دستور الجمهورية الثانية لم يكن كفيلا بحسمه، وانشغلوا ببرامجهم الحزبية والسياسية وبالناخبين على حساب مصلحة الدولة والبلاد، وانجرّ عن ذلك صراعات ومعارك "دونكيشوتية" مغرقة في العبثية.. ولكن بعد أن كُشفت "الحقائق المروّعة" تقاطر السياسيون على مركز الادماج الاجتماعي الذي يؤوي الأطفال، بعضهم قدّم وعودا بأن الدولة ستقوم بدورها، ولكن ما الذي منع هذه الدولة من القيام بدورها قبل حصول الكارثة؟.. وبعضهم أبدى صدمته من الحالة التي وجد عليها الأطفال ومن أفكارهم المتشدّدة، وكأننا لم نُمض سنوات ونحن نحارب إرهابا أزهق مئات الأرواح؟ والبعض الآخر حاول توظيف القضية بالمزايدة أو باستغلال الفرصة للاقتصاص من الخصوم دون التفكير لماذا وصلنا الى ما نحن فيه، ولماذا تم التنكيل ب"42 طفلا" في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الجميع؟ الكارثة متوقّعة والاهتمام متأخّر تسابق وتبارى السياسيون وفي مقدّمتهم أعضاء الحكومة ونواب مجلس نواب الشعب ومسؤولي الدولة على زيارة مركز الادماج الاجتماعي الذي تم نقل أطفال مدرسة الرقاب اليه، بعد قرارات من رئيس الحكومة بإعفاء والي سيدي بوزيد ومعتمد الرقاب، وقد تحول رئيس الحكومة يوسف الشاهد ظهر يوم الثلاثاء الماضي إلى المركز الوطني "أملي" لإيواء الطفولة بحمام الأنف لمعاينة وضعية ايواء الأطفال بعد تسرّب معطيات "مظلّلة" حول احتجازهم في ظروف غير مناسب، واطلع على الاحاطة التي يحظى بها هؤلاء الأطفال، وأكّد عقب هذه الزيارة "أن مدنية الدولة التي لا تقبل دمغجة عقول الأطفال واستعمالهم بأي طريقة كانت.. وأن الحكومة متمسّكة بتتبع كل من أجرم في حق هؤلاء الأطفال وانطلقت في تتبع من يخرق القانون تحت غطاء الجمعيات عبر رفع أكثر من 160 قضية ضدها." وهنا يطرح السؤال الحارق: منذ حكومة الحبيب الصيد الأولى تم تصنيف أكثر 154 أنها جمعيات تحمل شبهة تمويل ونشر الأفكار المتطرّفة، بما يعني أن الدولة ومنذ خمس سنوات كانت تدرك خطورة وحجم انتشار هذه الجمعيات وتمكّنها من إيجاد حاضنة شعبية واجتماعية لنشاطاتها، فلماذا تقاعست أجهزة الدولة عن "الضرب بقوّة" على أيدي المخالفين وانتظرنا الكارثة حتى يتم تفعيل قرارات ملاحقة هذه الجمعيات قضائيا؟ وفي ذات السياق صرّح وزير الشؤون الاجتماعية محمّد الطرابلسي بأن السلطات أوقفت نحو 144 جمعية لمخالفات متعددة، وأن معظمها أنشئ في فترة حكم "الترويكا".. فلماذا لم يحاسب المسؤولون سياسيا زمن الترويكا على السماح لهذه الجمعيات المشبوهة بالنشاط؟ ولماذا لم تشهّر الحكومة بهذه الجمعيات وتقرّ برامج خصوصية لمتابعة "ضحايا" هذه الجمعيات؟ وزير الشؤون الاجتماعية اعترف بأن "المدرسة كانت تقوم بتدريب الأطفال على ذات الطريقة الخاصة بجماعة "طالبان" من حيث المواد الفكرية والتدريبات البدنية والمظهر والإقامة الجبرية بطريقة متشددة بحيث لا يغادرون مكان التدريب إلا كل عام، وكذلك طريقة العقاب".. والسؤال هنا أين كانت أجهزة الدولة من هذه الموجة "الطالبانية "تحت غطاء "التدريس"، وكم من مدرسة تدرّس في تونس وفق المنهج "الطالباني" ولم نتفطّن لها بعد، أم أنه يجب أن ننتظر تقارير اعلامية لتكشف لنا هذه "البؤر" و"الأوكار " المختصّة في "تصنيع" أجيال "داعشية"؟!.. هناك اليوم لجنة وطنية ملحقة برئاسة الحكومة لمكافحة والتصدّي للتطرّف العنيف، فأين هي هذه اللجنة من كل ما حدث ويحدث في غفلة عن الجميع؟.. النواب و"بكائيات" العادة! قام وفد برلماني يتكوّن من عدد من النواب من مختلف الاحزاب والكتل البرلمانية أوّل أمس الاربعاء بزيارة مركز ايواء الاطفال بحمام الأنف، وبعد هذه الزبارة عبّر أغلبهم سواء من خلال تصريحات صحفية أو من خلال صفحاتهم الرسمية عن صدمتهم مما عاينوه من مظاهر تشدّد على هؤلاء الاطفال سواء على المستوى السلوكي أو الفكري.. فالنائبة ليلي الشتاوي الرئيسة السابقة للجنة التسفير الخاصّة بمجلس نواب الشعب، والتي اختفت أخبارها ولم تصدر الى اليوم أي تقرير رسمي حول نشاطها، أكّدت في تصريح لها إن "شابا لم يتجاوز ال 15 من عمره رفض مصافحتها في حين أن آخر رفض مواصلة ايوائه بالمركز بتعلة أنه سيعود للجبل.. وأن عددا من الأطفال رفضوا كذلك ارتداء ملابس عادية وأصروا على ارتداء القميص".. كما أضافت "أن الأطفال يرفضون كذلك الاستماع الى الموسيقى أو استعمال التلفاز معتبرين ذلك كفرا"، لافتة الى أنهم تلقوا كذلك دروسا في "جهاد النفس" عبر تدريبهم على تحمل الجوع ما أثر على وضعهم الصحي.. النائبة عن كتلة حركة النهضة يمينة الزغلامي أكّدت "إن أحد الاطفال بالمدرسة القرآنية بالرقاب وصف إحدى النائبات ب "الكافرة" خلال لقائهم معه، كما وصف اخرى ب "السافرة" مؤكّدة وجود آثار الانتهاكات الجنسية التي يصعب محوها من أذهان الأطفال.. أمّا النائب في مجلس نواب الشعب، الصحبي بن فرج، فقد دوّن أمس على صفحته الرسمية، قائلا "يخيّل إليك وانت تتجول داخل المركز، بأنك تزور إمارة سلفية مصغرة خارج الزمان والمكان: أطفال ومراهقون ينتشرون في أركان القصر غالبا باللباس الأفغاني ينغمس بعضهم في مختلف أنشطة المركز (كرة قدم، ألعاب فيديو، مسرح...) بينما يتمركز فريق "برج المراقبة" في زاوية بالطابق العلوي تطل على الساحة، لا تفوته أي حركة أو تواصل بين الأطفال وإطارات وزوار المركز".. وقد ختم الصحبي بن فرج الذي ينتمي لكتلة "دعم الاستقرار الحكومي" ويشارك حزبه في الائتلاف الحاكم بسؤال "كيف نرخّص في تونس لمثل هذه المدارس؟ كم توجد في تونس من مدرسة أو أكاديمية إرهابية تحت شعار تحفيظ القرآن؟"... سؤال طرحه على المتابعين لصفحته وعلى الرأي العام في حين كان يفترض أن يطرحه الرأي العام عليه وعلى الحكومة التي يدعمها برلمانيا وحكوميا!! ورغم كلمات النواب المشحونة بمشاعر الصدمة والاستياء و"العواطف الجياشة" تجاه هؤلاء الأطفال الضحايا الاّ أن ذلك لا ينفي مسؤوليتهم عمّا حصل، فنواب الشعب والائتلاف الحاكم والمتحصّنة بالأغلبية البرلمانية عجز بعد خمس سنوات من الحكم على تغيير وعلى ايجاد الحلول وعلى "تطهير" البلاد اجتماعيا وتنمويا وتربويا وفكريا من هذه "البؤر" و"الأوكار" الداعشية المستمرّة في انتاج أجيال من التطرّف!