أمين محفوظ أستاذ القانون الدستوري ل"الصباح": الفصل 89 من أسوإ الفصول صياغة وهو مكلف جدا للدولة ماديا وسياسيا وولد حالة من عدم الاستقرار السياسي في تونس تونس- الصباح يتفق أغلب المحللين اليوم والمتابعين للشأن السياسي التونسي، أن الأزمة السياسية التي تمر بها بلادنا اليوم، ليست وليدة اللحظة بل هي نتيجة تراكمات بدأت في التشكل خاصة بعد انتخابات 2014 وتأكدت فعليا مع خسارة الحزب الفائز في الانتخابات "نداء تونس" لأغلبيته البرلمانية سنة فقط بعد الانتخابات.. والمفارقة الأولى أن هذا الحزب الذي ربح الانتخابات وفشل في الحصول على الأغلبية المطلقة، ما يزال يدير الحكم صوريا رغم أنه أصبح -برلمانيا- في الصف الثاني ان لم يكن الثالث من حيث عدد المقاعد.. والمفارقة الثانية أنه وفقا للدستور لا يحق لهذا الحزب أن يصبح في المعارضة حتى لو خسر جميع نوابه والسبب تناقض النص الدستوري مع الواقع السياسي الراهن. بعد أربع سنوات من صياغة الدستور، يمكن القول ان جزءا كبيرا من الأزمات السياسية التي مرت بها البلاد ليس فقط مردها صعوبات الانتقال الديمقراطي (سياسية واقتصادية واجتماعية) التي تعد -وفقا للتجارب المقارنة- عادية ويمكن تجاوزها على مر الزمن لو تم احكام التعامل معها، لكن أيضا -وهو ما يبرز استثنائية الحالة التونسية- إلى الهنات العديدة في دستور جانفي 2014 إذ فشلت بعض احكام الدستور عند تطبيقها في فرز توازن سياسي بين السلط، وفي اقرار نظام سياسي واضح، في حين أنه تم اختراق أحكام دستورية، إما لصعوبة تنفيذها أو لتعارضها مع مصالح بعض الأحزاب (المحمكة الدستورية مثالا)، وبرزت بعض الفصول كعائق حقيقي أمام ايجاد مخارج سياسية حقيقية لتجاوز الأزمات وحسم الصراعات وتنازع السلط عبر آليات دستورية وقانونية واضحة لا لبس فيها.. بمعنى أنه -نظريا - جُعلت دساتير العالم لتنظيم الحياة السياسية وتأطيرها لكن دستور تونس الوليد يُعتبر في صيغته الحالية مُعرقلا لحياة سياسية مستقرة. وبالعودة إلى الواقع السياسي الحالي فهو يتميز بوجود حكومة باتت تفتقر لحزام سياسي واضح والأخطر انها باتت محل تهديد بالحل والتصفية، ليس فقط من خصوم سياسيين، ولكن أيضا من قبل الحزب الذي فاز في الانتخابات ويطالب حاليا بإقالة رئيسها الندائي يوسف الشاهد الذي نجح في تفادي سقوط حكومته والحصول على دعم برلماني من خارج حزبه مستفيدا من تناقضات الصراع السياسي، ولكن ايضا من آليات دستورية ثبت ضعفها.. ومثال ذلك آلية الفصل 89 الذي يحدد طريقة تشكيل الحكومة وشروطها. فالشاهد، مثلا رغم أنه نجح في تشكيل دعم برلماني مكون أساسا من كتلة "النهضة" وكتلة "الائتلاف المدني" حديثة التكوين، يسمح له بتحصين نفسه وحوكمته ضد آلية اللوم والاسقاط، لكن في المقابل لا تستطيع الكتل الداعمة له دستوريا الادعاء بحقها في تشكيل الحكومة بل فقط امكانية التأثير سياسيا عليها.. بمعنى أن نداء تونس هو المعني بتشكيل الحكومة لكنه فعليا لا يسيطر عليها أي أنه لا يحكم. هذا الفصل اعتبره الأستاذ والخبير في القانون الدستوري أمين محفوظ من أسوإ الفصول الدستورية صياغة وأخطرها على الإطلاق لأنه كان بالامكان اختزاله في جملة واحدة كالتالي:"يعين رئيس الجمهورية رئيس الحكومة وأعضاءها". الخطأ يكمن في التفاصيل.. في الواقع، تنبأ محفوظ بحصول مثل هذه التناقضات بين الدستور والواقع السياسي منذ سنة 2015 حين نبه إلى وجود عدة أحكام في الدستور يشوبها اللبس والفموض، ودعا في كتابه "مساهمة في دراسة الانتقال الديمقراطي في تونس" الذي أصدره سنة 2016 إلى ضرورة تعديل شامل للدستور لعدة أسباب منها أن النظام السياسي المعتمد فيه يتسم بانخرام التوازن لفائدة البرلمان، الذي وإن كان نظريا أقوى مؤسسة، فإنه فعليا ضعيف جدا لأنه فسيفسائي ناتج عن ضعف القانون الانتخابي. يقول محفوظ في تصريح ل"الصباح" أن القاعدة الذهبية للصياغة الدستورية تقول انه لا يجب أن ندخل في التفاصيل لأن القاعدة تنص على أن الدستور يؤطر الظاهرة السياسية والأسلم أن يتم الاكتفاء بالمبادئ العامة وترك المسائل العرضية تدار وفقا للواقع السياسي. وفسر ذلك بأن الفصل 89 عندما يتحدث في التفاصيل وينص على وجوب تعيين رئيس الحكومة في ظرف أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية.."يعني أنه دخل في المسائل التفصيلية التي تؤدي إلى نتائج عكسية غير مرجوة. فالفصل منح امتيازا للحزب (أو الائتلاف الحزبي) الذي تحصل على أغلبية المقاعد في تشكيل الحكومة مهما كانت وضعيته بعد الانتخابات، ولم يمنح الامتياز للكتلة البرلمانية، في حين أن الحزب قابل للتطور والازدهار كما انه قابل للنقصان والاندثار وهو ما يعني ان ربط مصير الحكومة بالحزب الفائز انتخابيا أمر خاطئ. وقال إن "الحزب السياسي يتعرض لأزمات مثلما هو الحال في حزب نداء تونس الذي لم يعد الحزب الذي جاء في المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد في البرلمان وفقد منذ فترة بعيدة المرتبة الأولى، وبالتالي فإن رئيس الحكومة الذي ينحدر من نداء تونس فقد الأغلبية الحزبية ولم يعد له سند حزبي في البرلمان". وأوضح محفوظ أن دساتير الدول الديمقراطية لا تدخل في التفاصيل وتركت مسألة تنظيمها إلى الواقع السياسي. فرئيس الجمهورية حر في تعيين رئيس الحكومة لكن عليه أن يراعي المعادلات السياسية التي أفرزتها الانتخابات في البرلمان. والاشكال اليوم يتمثل في أن الحزب الفائز في الانتخابات لم يعد له ثقة في رئيس الحكومة، لكن هذا الحزب لم تعد له الأغلبية المطلقة، بعد أن انقسم إلى أحزاب صغيرة واستقال منه عديد النواب. ويفسر الخبير في القانون الدستوري بأن نص الفصل 89 من الدستور وضع على المقاس إذ تم صياغته آنذاك من قبل المجلس التأسيسي حين ذهب في ذهن حركة "النهضة" (التي فازت بأغلبية المقاعد في انتخابات 2011) انها ستكون دائما في المرتبة الأولى في الانتخابات الموالية وأن رئيس الحكومة سيكون حتما من الحركة، لكن نتائج انتخابات 2014 أدت إلى نتائج عكسية وهكذا ساهم هذا الفصل في تعطيل النظام السياسي. وضعية سياسية غريبة ويتحدث الفصل 89 عن أن الحزب الذي تحصل على أغلبية برلمانية هو من يعين رئيس الحكومة، وربط التعيين بمدة أسبوع بعد انتهاء الانتخابات التشريعية والحال ان التعيين مرتبط بالواقع السياسي.. لكن الواقع اليوم يشير إلى ان رئيس الحكومة ينتمي إلى حزب فقد الأغلبية ولم يعد الحزب رقم واحد بل رقم اثنان، وقد يصبح رقم ثلاثة قبل انتهاء المدة النيابية الحالية. وضعية وصفها محفوظ ب"الغريبة" بما أنه في الأنظمة الديمقراطية يستقيل رئيس الحكومة في صورة فقدان حزبه الأغلبية البرلمانية مثلما فعل طوني بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق. وقال إن الفصل 89 مكلف جدا ماديا وماليا وسياسيا للدولة التونسية وولّد حالة من عدم الاستقرار السياسي في تونس، مشيرا إلى وجود عدة فصول في الدستور وجب مراجعتها. لكنه يستدرك ليقر باستحالة مراجعة الدستور بسبب عدم وجود المحكمة الدستورية (نص على تأسيسها الدستور في ظرف سنة واحدة بعد الانتخابات) وهذه الهيئة الدستورية لم تر النور بعدُ وتتعرض لعديد العراقيل، وقال محفوظ في شأنها :"هناك سوء نية وخطط مدروسة من قبل بعض الأحزاب السياسية لعرقلة إحداث المحكمة وتأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019". رفيق بن عبد الله ................................ نص الفصل 89 من دستور جانفي 2014 تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتّاب دولة يختارهم رئيس الحكومة وبالتشاور مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتيْ الخارجية والدفاع. في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، بتكوين الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة. وفي صورة التساوي في عدد المقاعد يُعتمد للتكليف عدد الأصوات المتحصل عليها. عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يقوم رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر. إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. تعرض الحكومة موجز برنامج عملها على مجلس نواب الشعب لنيل ثقة المجلس بالأغلبية المطلقة لأعضائه. عند نيل الحكومة ثقة المجلس يتولى رئيس الجمهورية فورا تسمية رئيس الحكومة وأعضائها.