يوم السادس عشر من أغسطس الجاري استقبلت مدينة نابلالتونسية وعلى غير عادتها المئات أو العشرات من اليهود التونسيين المقيمين خارج أرض الوطن , حيث كان للمقبرة اليهودية بعاصمة الوطن القبلي موعد تاريخي وغير مسبوق مع قداس ترأسه الحاخام الأكبر لليهود التونسيين حاييم بيتان . الحدث الذي شد اليه الرحال مئات اليهود من تونس وفرنسا والخارج كان حدثا استثنائيا بكل المقاييس, حيث لم تتعود هذه المدينة السائحية على زيارات يهودية تحظي بالدعم والتشجيع الحكومي فيما عدى ماعرفته وتعرفه جزيرة جربة وكنيس الغريبة من ترحيب رسمي بزيارة تقليدية تعودت السلطة على استثمارها سياسيا في المحافل الدولية من أجل تثبيت صورة تونس المنفتحة حضاريا على الأقليات وأصحاب الديانات السماوية الأخرى . التشجيع الحكومي لهذا القداس اليهودي والذي حضره ممثلون عن الحكومة التونسية أبدوا فيه ترحيبا بشد الرحال الى نابل من أجل احياء ذكرى مرور 207 سنة على رحيل الحاخام يعقوب سلاما , من شأنه أن يلقى الترحيب من قبلنا اذا ماعمدت السلطات التونسية الى معاملة بالمثل لمواطنيها التونسيين المقيمين بالخارج لدواعي واعتبارات سياسية منذ مالايقل عن خمسة عشر سنة ..., اذ لابأس أن تكون حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون في هذا الموضع مترفعة عن اعتبارات الدين والعقيدة مع ضرورة احترام وتقدير الانتماء الحضاري والقومي للبلاد الذي يأخذ بعين الاعتبار الحقوق المشروعة والمقدسة للشعب الفلسطيني . لسنا بصدد الاعتراض على حقوق الأقليات الدينية في تونس , ولكننا بصدد الاعتراض على مايمكن أن يفهم على أنه نوع من المحاباة والانحياز ضد مواطنين يعدون بالالاف والمئات نتيجة قناعاتهم السياسية والفكرية المنخرطة في صلب الرأي الاخر أو التوجه المعارض ... حين يستقبل مواطنونا اليهود في مقبرة مهجورة منذ عقود وتقام لهم الاحتفاليات , فان ذلك يعد انفتاحا واحتراما للأقليات الدينية -وهو كذلك-, وحين يمكن هؤلاء من حق العودة الى تراب الوطن بعد هجر له منذ الخمسينات أو الستينات , فان ذلك يعد تسامحا حضاريا ومساواة أمام القانون وعودة الى مربعات السلام الدولي , وربما يكون الأمر في الواقع غير ذلك في جزئه الأخير ..., ولا اعتراض على ذلك حين يقتصر الأمر على اعتراف الدولة رسميا بحقوق الأقليات ولايتجاوزه الى أجندات تطبيعية تتزامن مع ضياع جزء كبير من الحقوق الفلسطينية الوطنية والدينية المشروعة ... غير أن مخاوفنا بالمناسبة تتجه الى الاتي , حيث تعمد بعض الجهات وبدواعي سياسية مريبة الى تضخيم حقوق أقليات دينية تضعنا مستقبلا أمام أوضاع سياسية وديبلوماسية وسيادية صعبة , وهو مالايمكن فهمه الا على أساس الرغبة لدى هذه الأطراف في الالتفاف على استحقاقات الأغلبية المشروعة في الدمقرطة والاصلاح والانفتاح السياسي واحترام حقوق الانسان وتجاوز عقد المواجهات الداخلية العقيمة بين تيارات الهوية الوطنية وجماعات التحديث القسري المستصحب لاليات القمع والاكراه . لتبقى الأمور فعليا ضمن أطر الاعتراف لجميع التونسيين بالمواطنة الكاملة بعيدا عن أشكال الاستدرار والاستعطاف الخارجي الذي يركب موجة أقوى الأقليات النافذة عالميا من أجل تدجين حقوق بقية التونسيين أو تعطيل طموحاتهم السياسية المشروعة في دولة القانون والمؤسسات وامالهم في الحكم الرشيد ... لنتفق على أن للتونسي حقا مشروعا في العودة مكرما ومحترما ومبجلا الى ترابه الوطني , بقطع النظر عن دينه أو لونه أو انتمائه الفكري أو السياسي , مع الحاح على الدولة بضرورة الاعتراف بحق المظلومين سياسيا باستعادة ماخسروه أثناء حقبة راوحت العقدين أو العقد ونصف من اقامتهم القسرية خارج تراب الوطن ... هؤلاء المعارضين الذين نبذوا العنف أسلوبا للتغيير وتحملوا مشاق النفي بين قارات العالم وتجرعوا كأس المرارة وهم يرون أبناءهم يكبرون مع ألسنة غير ألسنتهم وينشأون بين ملل ونحل لاتعتقد مايعتقدون ...-هذا مع غض الطرف عن ألوان من الاكراهات والعذابات الأخرى-, هؤلاء يستحقون من المسؤولين الحكوميين ومفوهيهم لفتة كريمة ترحب بهم في مطارات تونس ومدنها مع الاعتذار ولو بشكل مبطن عن حقبة أساءت للجميع وطنا وحكاما ومحكومين .. لاأظن أن تونس قيادة رسمية أو مؤسسات وطنية عاجزة عن ذلك في المدى الزمني القريب , ولا أظن أن من استقبل مواطنينا اليهود في نابل وجربة بتلك الحفاوة السياسية والاحتفاء الاعلامي والديبلوماسي .., لاأظنه عاجزا عن القيام بنفس الاستقبال للنخب التونسية المتوزعة في المنافي نتيجة مواقفها المعارضة أو أدائها السياسي في حقبة زمنية ما ... انها فقط الارادة السياسية وتغليب المصلحة الوطنية العليا على غيرها من المصالح الايديولوجية أو السياسية الضيقة , ومتى توفرت هذه الارادة فلن يبقى في تونس سجين سياسي ولن يستثنى بقية التونسيين من "قداس جماعي" نحتفل فيه بكل أطيافنا وألواننا بخلو تونس من مصطلح الاعتقال أو النفي على أرضية سياسية أو دينية أو فكرية لاتتسع لها سماحة التونسيين والتونسيات. حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 22 اغسطس 2007 *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :