رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء    جمعيات ومنظمات تؤّكد تمسكّها بحق ملاحظة الانتخابات    ترامب يرفض إجراء مناظرة جديدة مع هاريس    حكايات من الزمن الجميل...دنجوان السينما الفرنسية (1 /3)...آلان ديلون ... طفولة بائسة وبطولة خالدة !    مدرب مانشستر يونايتد يَتَنَصّلُ من تصريحه "اليائس" ويَنْسُبُهُ لرونالدو    أخبار النادي الصفاقسي...اقبال كبير على التذاكر    أخبار الملعب التونسي ...«الدخلة» جاهزة و«أغبوزو» مطلوب    كلام في الصميم...من أقوال الداعية محمد متولي الشعراوي رحمه الله    من وحي ذكرى مولد الرسول الأعظم...السيرة العطرة والخصال الكبيرة    اسألوني    ملتقى الشارقة للسرد في تونس ينهي أشغاله    تراجع قياسي للطلب على النفط في العالم    الكبارية .. إيقاف 3 قصّر من أجل رشق المارّة بالحجارة والقيام بعمليات تخريب    بالمناسبة ... لماذا فقد المسرح التونسي ريادته العربية؟    بسيدي بوزيد وصفاقس.. القبض على اشخاص من اخطر العناصر المطلوبة للعدالة    حجز 9.6 طن من الزقوقو والفواكه الجافة ومكونات الحلويات التقليدية    حجز هواتف جوالة بقيمة 206 آلاف دينار على متن سيارة أجنبية    تعازينا الحارة للصديق توفيق بلحاج على اثر وفاة شقيقته    عاجل/ المغرب يسجّل أول إصابة بجدري القرود    بوتين: 34 دولة تقدمت للانضمام إلى أنشطة "بريكس"    المخزون العام للسدود لم يتجاوز ال23.1 بالمائة إلى غاية 12 سبتمبر 2024    كأس دايفيس- المجموعة الثانية: المنتخب التونسي يواجه غدا وبعد غد نظيره الإيرلندي    تواصل ظهور الخلايا الرعدية الممطرة ليل الخميس    مشاورات مكثفة بين الفصائل الفلسطينية لتأليف حكومة توافق وطني    الرابطة الأولى: تعيينات حكام الدفعة الأولى لمقابلات الجولة الثانية    قابس : قبول 2053 طفلا وطفلة في برنامج النهوض بالطفولة المبكرة    انطلاق "أيام أسخيليوس للمسرح بوادي الزرقاء "    العرض الأول لوثائقي "شهيلي" لحبيب العايب يوم 21 سبتمبر بقاعة الريو    القيروان : توقعات ل700 ألف زائر بمناسبة المولد النبوي الشريف    هيئة الانتخابات تدعوالمترشحين بمدها بمعطيات مفصلة حول الوسائط الاشهارية    حجز 367500 قرص مخدر في صحراء تطاوين    الوكالة التونسية للتكوين المهني : فتح باب التسجيل في عديد من الإختصاصات    مضاعفة حصة هذه الولاية من مادة السكر    صوفيا...فيلم جديد من إخراج ظافر العابدين    جزيرة يونانية تدفع لك راتباً للعيش فيها!    تونس_الانتخابات الرئاسية 2024: المغزاوي يدعو سعيّد الى مناظرة تلفزية    تتويج العداءة التونسية إيمان الساعي بالميدالية الذهبية    يوم 30 سبتمبر آخر أجل للمشاركة في الدورة الرابعة لايام "فاقا" للموسيقي    مبيدات حشرية غير فعالة..عضو باتحاد الفلاحين يلقي باللوم على الموردين    تونس مواطنة أوربية تُعلن إسلامها أمام سماحة المُفتي    نابل: توقعات بتراجع صابة الفول السوداني '' الكاكوية '' رغم زيادة المساحات المزروعة    لماذا يرفض ''مطلب الفيزا'' الخاص بك ؟    4 جرحى في حادث مرور بجندوبة..    اتحاد تطاوين يتعاقد مع لاعبين سينغاليين    بنزرت: السفينة الشراعية العلمية "TARA" ترسو بالميناء الترفيهي "مارينا كاب 3000"    اكثر من 10 مؤسسات تونسية تشارك في اهم معرض للطاقات المتجددة بالولايات المتحدة الامريكية    غموض حول مآل الشّيكات مؤجّلة الخلاص إثر صدور القانون الجديد.. التفاصيل    الهيئة الوطنية للمحامين تقرر حمل الشارة الحمراء وتنظيم وقفات احتجاجية    البريد التونسي أرقام إضافية بمركز النداء للطلبة    بعد أكثر من 10 سنوات من الانقطاع.. عودة تنظيم اكبر معرض فلاحي بباجة ومنطقة الشمال الغربي    عاجل: العثور على جثة ادمية متحللة في جبل بهذه المنطقة..    ما هو داء ''باركنسون''..و ماهي أعراضه؟    النجم الساحلي يتعاقد مع نزار الشميسي لمدة ثلاث سنوات    مفيدة للقلب ، وتحمي من الجلطات...7 فوائد للزقوقو    تحذير للنساء.. "خطر صحي" مرتبط بتراكم دهون البطن    تمثال للملكة إليزابيث يثير السخرية: لماذا؟    وفاة رئيس البيرو السابق ألبرتو فوجيموري    إطلاق حملة وطنية للتحسيس والتوعية حول الوقاية من الامراض الموسمية عند الرضع..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف القرضاوي : نظرات في فقه جماعات العنف
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 02 - 2008

إن العنف الذي تمارسه بعض الجماعات التي تنسب للإسلام، إنما هو إفراز لفلسفة معينة تتبناها هذه الجماعات، وثمرة لفقه خاص له وجهته ومفاهيمه وأدلته التي تستند إليها هذه الفئة من الناس.
ومن نظر إلى جماعات العنف القائمة اليوم في عالمنا العربي مثلا وجد لها فلسفتها ووجهة نظرها وفقهها الذي تدعيه لنفسها وتسنده بالأدلة من القرآن والسنة ومن أقوال بعض العلماء.
صحيح أنها تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد، وكثيرا ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها، ولكن -على أية حال- لها فقه مزعوم يبرر العنف، ويروج لدى بعض الأغرار من الشباب والسطحيين من الناس الذين يقفون عند السطوح ولا يغوصون في الأعماق، وأساسه فقه الخوارج قديما الذين كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
بدأت هذه الجماعات العنف في داخل أوطانها أنفسها، أي العنف ضد الأنظمة الحاكمة. فعلى أي أساس بررت ذلك وأجازته من الوجهة الشرعية، في نظرها على الأقل؟:
إن فقه جماعات العنف يقوم على أن الحكومات المعاصرة حكومات كافرة، لأنها لم تحكم بما أنزل الله، واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق، وبهذا وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها، إذ كفرت كفرا بواحا عندهم فيه من الله برهان.
ويؤكد فقه هذه الجماعات كفر هذه الأنظمة الحاكمة بأمر آخر، وهو أنها توالي أعداء الله من الكفار الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم، والله تعالى يقول: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة:51].
والحكومات المعاصرة تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وأنهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعينون الأئمة والخطباء والمؤذنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.
كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن أن الشريعة مصدر رئيس أو المصدر الرئيس للتقنين، وبعضها يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها وبعضها...
كما تعتمد جماعات العنف على فتوى الإمام ابن تيمية في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام، كالصلاة أو الزكاة أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخره. وهو ما اعتمد عليه كتاب (الفريضة الغائبة) لجماعة الجهاد في مصر، وجعل هذه الفتوى الأساس النظري لقيام تلك الجماعة، وتسويغ أعمالها كلها.
ويستدلون أيضا بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لمانعي الزكاة، فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقا عليهم، ومعاداة لهم؟!
ونسي هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!.
وتعتمد جماعات العنف أيضا على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف. وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم!.
ونسي هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم: إن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقر له الوضع ودان له الناس.
وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه، وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة مثل ابن عمر وأنس وغيرهما، حقنا للدماء ومنعا للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف.
تغييرهم للمنكر باليد
وترى جماعات العنف كذلك أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة -التي تبيحها هذه الحكومات- من الخمر والميسر والزنا والخلاعة والمجون والربا وسائر المحظورات الشرعية: يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
ويغفل هؤلاء الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء.
تكفيرهم للمجتمعات
وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضي بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها: أن من لم يكفِّر الكافر فهو كافر!.
وبهذا توسعوا وغلوا في التكفير وكفروا الناس بالجملة.
وعلى هذا لا يبالون من يقتل من هؤلاء المدنيين الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل؛ لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم!.
كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية، وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضا.
استباحة دماء السياح
وهم يرون أن السياح وأمثالهم الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدّهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مستباحي الدم، لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية؛ لأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!.
وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية -التي يقيم بعض هؤلاء فيها- وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرد، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح: "إن هذه الدول كلها كافرة محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعا حتى يُسلموا فيَسلَموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: "إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها! وهؤلاء الكفار دماؤهم حلال، وأموالهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين".
ويذكرون هنا آيات وأحاديث يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات والأحاديث التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!.
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان، ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.
وهو بلا ريب فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطئوا فيه في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.