في البداية شعرتُ بالحرج لأنني تورّطتُ بالاستجابة إلى طلبٍ عاجلٍ من "البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة" لكتابة مقالة من ألف كلمة عن إنجازات نساء العلم في العالم العربي. وعندما بدأت الكتابة أحسست بالسعادة لأنني قبلت القيام بهذه المهمة الجميلة، لكنني فكرتُ: كيف يمكن أن تروي في ألف كلمة أروع قصص النجاحات العربية في العصر الحديث؟ التمستُ من المسؤولين في المنظمة الدولية مضاعفة حجم المقالة ثلاث مرات على الأقل. وفيما يلي مقتطفات من الدراسة، التي تقع في أكثر من 10 آلاف كلمة، وتُنشرُ مقاطع منها في "تقرير التنمية الإنسانية العربية" الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. يصدر التقرير اليوم بالعربية والإنجليزية بعنوان "نحو نهوض المرأة العربية". ويمكن الاستماع إلى قصص من الدراسة يرويها مسلسل إذاعي من عشر حلقات، يبدأ بثها اليوم القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي". مفتاح فهم نهوض نساء العلم في العالم العربي، يكمن في عبارة "العِلمُ بالتعلُّمْ". قال ذلك أبو عثمان الجاحظ، المفكر الموسوعي لعصر النهضة العلمية العربية الإسلامية. وتُبرهن أحدث الإحصاءات عن التعليم العالي في العالم العربي على صحة قول الجاحظ، الذي ُولد وعاش في مدينة البصرة جنوب العراق قبل نحو 14 قرناً. فالإحصاءات تؤكدّ تفوق الإناث على الذكور، أو تعادل الجنسين في كثير من الجامعات العربية. سجلت دولة الإمارات العربية المتحدة أرقاماً قياسية عالمية في نسبة التحاق البنات بدراسة العلوم والتكنولوجيا مقارنة بالذكور. وحققت بنات المملكة العربية السعودية أرقاماً قياسية عالمية في سرعة وتائر نمو أعداد الملتحقات بالدراسات الجامعية والعليا، وبلغت نسبة الإناث الملتحقات بالتعليم العالي في الكويت ثلاثة أضعاف الذكور. وسجّلت تونس وسوريا والعراق والمغرب ومصر والبحرين أرقاماً أعلى من بلدان صناعية عدة في نسب التحاق الإناث بدراسة العلوم والطب والهندسة مقارنة بالذكور. "جامعة الإمارات" في العين، التي تُعتبر الجامعة الأمّ كانت تضم 330 طالباً مقابل 205 طالبات عند بدء الدراسة في العام 1977/1978. قفز العدد في العام الدراسي 2003/2004 إلى 1916 طالباً مقابل 3679 طالبة. وكان عدد كُلٍ من الطلاب والطالبات المسجلين في كلية العلوم في الجامعة 41 في العام الدراسي 1977/1978. لكن في العام الدراسي 2003/2004 أصبح عدد الطلاب 271 مقابل 1678 طالبة. وفي الفصل الدراسي الأول للعام 2004/2005 بلغ عددُ الطلاب المسجلين لدراسة العلوم 280 طالباً، مقابل 1695 طالبة. ويزيد عدد الإناث على الذكور أكثر من عشر مرات عند مقارنة الطلبة المواطنين، الذين يحملون جنسية الإمارات، حيث بلغ عدد المسجلين في كلية العلوم 142 طالباً، مقابل 1476 طالبة. تكررت هذه الظاهرة بدرجات مختلفة في معظم الكليات والجامعات العلمية العربية. وشهدت المنطقة دخول النساء في جميع ميادين العلوم والطب والهندسة، وفي مجالات نظرية وتطبيقية، تمتد ما بين الرياضيات وفلسفة العلوم، إلى إنشاء وإدارة شركات وأعمال علمية وتكنولوجية، وقيادة مؤسسات عامة، وتوّلي وزارات ومسؤوليات رفيعة على مستويات محلية ودولية. ويستحيل العثور الآن على ميدان علمي، أو تكنولوجي لم تدخله المرأة العربية، من الهندسة بمختلف صنوفها، كالمعمارية والمدنية والميكانيكية والإلكترونية، إلى الهندسة الزراعية والبيولوجية، وهندسة النفط، والاتصالات والمعلومات، والطب بجميع تخصصاته التقليدية والمستحدثة، البيطرية والبشرية، وفي علوم المرض والصحة والجراحة والأدوية، وحتى الطب العقلي والجيني والجزيئي والإحصائي، وكذلك علوم الكومبيوتر، والبيولوجيا، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، والفلك، والفضاء، والجيولوجيا. وعندما أتيحت لنساء العلم في العالم العربي فرصة الإبداع والمنافسة على الصعيد الدولي حققن نتائج مدهشة. يتضمن تقرير "نحو نهوض المرأة العربية" مقتطفات من قصص نساء لامعات، كالمهندسة المعمارية العراقية زهاء حديد، التي ارتقت القمة العالمية في مهنة تجمع بين الفن والعلم والتكنولوجيا و"البيزنس". ويورد التقرير شهادة العالم العراقي صالح الوكيل، عضو "الأكاديمية القومية للعلوم" في الولاياتالمتحدة عن انتخاب عالمة الطب اللبنانية هدى زغبي لعضوية الأكاديمية، التي تضم أحمد زويل، وإلياس خوري، الحاصليْن على جائزة نوبل. وقد تصبح هدى زغبي -التي نالت كرسي أستاذية الطب الجيني في "كلية بايلور للطب" في هيوستن- أول امرأة عربية تحصل على جائزة نوبل عن اكتشافها جينات مسؤولة عن الانحلال العصبي، الذي يصيب المتقدمين في السن بأمراض فقدان التوازن (الرَََنَح)، وخرف الشيخوخة (الزهايمر)، والرعاش (باركنسون). وجدير بالذكر أن زهاء حديد وهدى زغبي، كمعظم نساء العلم والهندسة والطب العربيات المعروفات على صعيد عالمي، قضين سنوات النشأة الجامعية الأولية في الجامعات العربية. واختارت أغلب نساء العلم اللامعات البقاء والعمل في بلدانهن، وتكتسي هذه الحقيقة أهمية كبيرة عند وضع السياسات العلمية والعامة في العالم العربي في الاعتبار. "زهرة بن لاخضر"، أستاذة الفيزياء في كلية العلوم بجامعة "المنار" في تونس نالت جائزة "اليونسكو/ لوريال" للعام 2005 عن أعمالها، التي تقف على الحدود المتداخلة بين الفيزياء والكيمياء، والبصريات optics والتحليل الضوئي photonics. ورفضت "بن لاخضر" عروضاً مغرية للعمل في أوروبا، وفضّلت العمل في بلدها بعد حصولها على الدكتوراه في جامعة "بيير وماري كوري" في باريس عام 1971، وقرّرت العودة هي وزوجُها المختص بالفيزياء أيضاً. كانت تونس آنذاك تفتقر إلى أبسط مستلزمات البحث العلمي. واضطرت "بن لاخضر" إلى التركيز على البحث النظري الصرف في مجال التفاعلات الجزيئية، وفيزياء الفلك، والضوئيات. وقضّت عشر سنوات في بناء مختبرها الخاص في "جامعة تونس" وذلك لتستطيع -كما تقول- "أن أقدم لطلبتي فرص البحث نفسها، التي أتيحت لي ولزوجي في فرنسا". ولم يكن ذلك سهلاً في بلد لم يكن فيه قبل جيلها علماء وأطباء وأكاديميون تونسيون. ومن ألمع النساء اللواتي اخترن العمل في بلدانهن عالمة الفيزياء المصرية "كريمات السيد"، التي نالت جائزة "اليونسكو/ لوريال" للعام 2003. تخرجت "كريمات السيد" من "جامعة عين شمس" بمصر، وحققت أبحاثُها للدكتوراه في "جامعة لندن" نتائج مستخدمة في صناعات التعدين، ومواد أشباه الموصلات، والطب. وتعتزّ "كريمات السيد" بالعدد الكبير من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير، الذين تخرجوا علي يديها، في جامعة "عين شمس" كاعتزازها بأولادها وأحفادها. وفي حين ينصرف معظم العلماء والأكاديميين عن البحث العلمي والتدريس عند تقدمهم بالسن تواصل "كريمات السيد" البحث والتدريس، لأنها تحب ذلك، حسب تصريحها عند الإعلان عن منحها الجائزة. ولا يمكن للأسف العثور على مراجع عن إنجازات نساء العلم والهندسة والطب في العالم العربي. تتجاهل ذلك تماماً الدراسات الأكاديمية الغربية حول المرأة العربية، على كثرتها. يعرض، على سبيل المثال موقع "مكتبة جامعة كورنيل" على الإنترنت نحو 100 عنوان لدراسات وتقارير عن وضع المرأة و"الجندر" في الشرق الأوسط. لكن ليس في هذا الموقع، الذي يعود إلى أبرز الجامعات الأميركية المهتمة بالدراسات العربية عنوانٌ واحدٌ عن المرأة العربية في العلوم والتكنولوجيا، فيما توجد نحو 10 عناوين عن جرائم الشرف، ووضع المرأة في العصور القديمة في مصر والشرق الأوسط، وصورة المرأة الجزائرية والتونسية في السينما التونسية، وعن الانتماءات الطائفية لنساء العراق. ولا وجود لبحث، أو تقرير حتى عن نساء العلم في أكثر البلدان العربية انفتاحاً على الغرب، وهو لبنان، حيث مقر "الجامعة الأميركية في بيروت"، التي خرّجت نخبة من نساء العلم والطب والهندسة المعروفات على صعيد عالمي. ألا تستحق الذكر أعمال الباحثات اللبنانيات اللواتي حصلن في عام 2005 على ثلث البحوث المدعمة من قبل "المجلس الوطني للبحوث العلمية"؟ تملك معظم هذه البحوث أهمية اقتصادية في الزراعة والأغذية والبيئة والصحة، كبحث "روزيت داوود" من "جامعة الروح القدس" في "ألكسليك"، وعنوانه "الربط بين التنوع الوراثي وتركيبة الزيوت الأساسية للورد الجوري"، أو بحث "نهلا ألحوله" من "الجامعة الأميركية" في بيروت، وعنوانه "تأثير العناصر الغذائية المتنوعة والنشاط البدني على المؤشرات الخطرة للأمراض المزمنة في لبنان"، وبحث "تريز عطا الله" من "الجامعة اللبنانية" عن "الأثر الزراعي والبيئي للحمأة على إنتاجية ونوعية الزيتون في الأراضي الكلسية"، وبحث "زينب سعد" من "المجلس الوطني للبحوث العلمية" عن "متغيرات المحتوى النظائري لمياه الأمطار في لبنان"، وبحث "منى فواز" من "الجامعة الأميركية" في بيروت عن "خريطة الأحياء العشوائية في بيروت منذ عام 1930". وقد تُعطي فكرة عن طبيعة عمل نساء العلم في البلدان العربية عناوين السيرة الذاتية ل"نهلا ألحوله"، أستاذة، ورئيسة قسم علوم التغذية والأغذية في "كلية الزراعة وعلوم الأغذية" في "الجامعة الأميركية" ببيروت. توضح عناوين السيرة الذاتية طبيعة المسؤوليات الملقاة على عاتق امرأة العلم في بلد كلبنان تُعتبر فيه الزراعة والأغذية عماد الاقتصاد الوطني، وعنوان السمعة الدولية. على الصعيد الأكاديمي، تُشرف "نهلا ألحوله" على وضع برامج دراسية جديدة توافق التطورات في علوم التغذية، التي تتأثر بما يحدث في الكيمياء والطب والتكنولوجيا. وتعمل العالمة اللبنانية في تأمين كادر أكاديمي متطوّر يسد حاجات قسم التغذية في الجامعة، الذي تضاعف عدد خرّيجيه ضعفين خلال الخمس سنوات الأخيرة، إضافة إلى عملها على مستوى الكلية، في لجان المناهج والبحث والنشر، ومسؤولياتها على مستوى "الجامعة الأميركية"، ذات العلاقات الدولية الكثيفة، ومهامّها، كعضو في هيئة رئاسة الجامعة، ودورها في وضع استراتيجيات الجامعة، ومناهجها التدريسية، وفي اختيار قياداتها. وتشارك "نهلا ألحوله" على مستوى الدولة اللبنانية في لجان العمل مع منظمات الأممالمتحدة للصحة والأغذية والزراعة، واللجان الحكومية لتشريعات الصحة والأغذية ورقابة المنتجات الغذائية، ووضع الأولويات الوطنية لبحوث الأغذية والزراعة، إضافة إلى مساهماتها على المستوى الإقليمي والدولي في تأسيس اتحادات، وتطوير تشريعات وأنظمة في التغذية، والصحة، والأعشاب الطبية، وصناعات الأغذية والأطعمة، ووضع برامج لدرس صلة الأطعمة بالأوبئة غير المعدية، كأمراض القلب والجهاز الدموي والسُّكري. تلعب الأنظمة الغذائية في هذه الأمراض، التي خرجت عن نطاق السيطرة في معظم بلدان العالم دوراً خطيراً، جعلها تحتل أكبر حيز من الاهتمامات والسياسات الدولية. هذه قراءة مبتسرة في عناوين موجز السيرة الذاتية ل"نهلا ألحوله"، التي تقع في نحو أربعة آلاف كلمة، وتضم ثبتاً بمؤلفاتها وأوراقها العلمية المنشورة في المجلات المُحكمة، وعدد طلبتها للدكتوراه والماجستير. التعرُف على السير الذاتية لنساء العلم في العالم العربي يكشف عن أن مجتمعاتنا العلمية تعمل، كما في عصور النهضة العلمية العربية الإسلامية من خلال مئات الروابط والصلات، على مستويات بحثية وأكاديمية، عامة وشخصية. وترسم السيَر الذاتية لمعظم نساء العلم في البلدان العربية خريطة إبحارهن في المحيط العظيم للمجتمع العلمي الإقليمي والعالمي.