" الدولة" هي إنجاز ما بعد البداوة والقبليّة والترحال. إنها مرحلة إقامة " شعب" له هوية جماعية على أرض ذات حدود معلومة تمارسُ سيادتها بإدارة "سلطة" سياسية منتخبة بإرادة حرة واعية...
يظل الشعب عبر قواه الحية ونخبه وطلائعه السياسية يجتهد في تصليب مقومات الدولة من مؤسسات ومنظمات وجمعيات وأحزاب وأسَرٍ ومن مرتكزات مادية سواء في التنمية الاقتصادية أو الإنجازات العلمية والصناعية و كذا المرتكزات الثقافية والقيمية بما هي روح الدولة ووقود حراكها ووشيجة تماسك مواطنيها. « الدولة» ليست مجرد خارطة جغرافية ومتقاطنين ومصالح تجارية ومقتضيات عيش... ذاك هيكلها ووعاؤها وعصَبُ قوامها تحتاجُ معه إلى روح المواطنة وروح الإنتماء وروح الفاعلية والإبداع وروح التنظم والانتظام. « الدولة « لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون إنجاز سلطة بمفردها مهما كانت طريقة حكمها إنما هي إنجاز مستمر تتجند لهُ كافة مكونات الشعب بمختلف الاختصاصات وتنوع المهارات وتفاوت القدرات لا يُستثنى أحدٌ... إن أي طاقة كامنة في «الدولة» إذا ما أغفلتْ فلم تُصرفْ في مسارها الصحيح سوف تُصرف حتما في مسارات أخرى قد تكون على الهامش المدني. علينا النظرُ خارج مسالك « الدولة» للتأكد مما إذا لم تكن ثمة طاقاتٌ مهدورة في غير سياق البناء الحضاري والتشكل المدني وفي غير مصلحة الوطن والشعب... لا شك أن المنضوين في منطق « الدولة « كثر ولكن علينا وبشجاعة وواقعية إحصاءُ « الهائمين» على الهامش وعلينا تقديرُ طاقاتهم الكامنة فيهم ومدى ما تمثله من قوة تأثير في اتجاه ما إذا ما تجمعت في لحظة خارجة عن الرصد. إن حجم « الكتلة الهائمة « هو بمستوى ضيق مؤسسات الدولة وأحزابها على التعبئة والتوجيه... وهنا نطرحُ سؤالا يُبيحه لنا الوطن: أي دور تقوم به الأحزاب الممولة من مال الشعب في «احتضان» أبناء الشعب؟ ونسأل أيضا عن أسباب عدم انجذاب شبابنا إلى تلك الأحزاب بل ونفوره الملحوظ من النشاط السياسي بأبعاده الهيكلية والفكرية والحركية؟. لم يعد ممكنا ترويجُ خطاب دعائي لا أثر له في الواقع ، ولم يعد مُحتملا برودُ الأحزاب وخواءُ خطابها ونزوعُها « الاستهلاكي» التواكلي حتى « أصبحت تمثل عبئا على الدولة والمجتمع» والقول لشخصية سياسية برلمانية بارزة في حزب معارض . إن «الواقع» هو ما يراهُ الناسُ ويحيونهُ وليس ما يُصاغ ُ في النصوص والبيانات ولا ما يُذاعُ من أخبار « أنشطة» في غير علاقة بمطالب الناس الحقيقية. إن بعض الأحزاب بسبب ضعفها وعجزها وانسداد أفقها هي عبء على الدولة والمجتمع بل وأكثر من ذلك إنها عبء ثقيل على الديمقراطية ! وإذا كانت النوايا حسنة بما تهدف إليه من تدريب الشعب على مشهد التنوع والتعدد والإختلاف حتى يتحول من مشهد إلى فكرة فإن النتائج تبدو على خلاف ما أرادته « السلطة « إذ يقول الناسُ خلاف ما يقالُ في الإعلام. أعتقد أن الديمقراطية تتعرض إلى «إهانة» حقيقية بسبب مُداراة بعض الأحزاب ودفعها إلى غير مراتبها وتقديمها في غير أحجامها وتمكينها مما لا تستحق. إن الشعب يدفع الثمن مرتين : مرة في التمويل ومرة في وجود العديد من أبنائه في «الكتلة الهائمة « بسبب ضيق تلك الأحزاب وضعفها. ولمن يتأمل حالة انسياب الطاقات الشبابية في الشوارع والساحات العامة والملاعب الرياضية والملاهي والمقاهي والحافلات العمومية ومحطات المترو وأزقة الأحياء الشعبية ... أن يتساءل من يضبط هؤلاء إذا ما لم ينضبطوا؟ هل للأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات المدنية قدرة على توجيه تلك « الكتلة الهائمة « إذا ما تلبستها حالة ٌ من غير مقتضيات التمدن والتحضر؟. إن العاجزين عن « التعبئة» هم أعجز عن «التهدئة»... ومن مقتضيات دوام الدولة وقوتها جرأتها على التحرر من الأعباء المعطلة.