يبدو، للوهلة الأولى، أن حملة مناهضة تحفيظ القرآن الكريم في تونس، والتي انخرطت فيها وسائل اتصالية، ونخب حداثية، رفضاً لقرار وزير الشؤون الدينية، محمد خليل، بتنشئة 100 ألف شاب تونسي على حفظ القرآن، وتوقيع اتفاقية في ذلك مع وزير التربية، تنص على فتح المدارس التونسية في عطلة الصيف، للقيام بهذه الوظيفة، أمراً طبيعياً متأتياً من خشية تلك النخب من تهيئة الأرضية لانتشار الدعشنة في تونس، كما عبّرت عن ذلك الباحثة نائلة السليني، صراحة قائلة: "ما فائدة تحفيظ القرآن للطفل؟ هل سنقاوم الفكر الداعشي بذلك؟ للأسف، أنا أقول إن الطفل سيحفظ الآيات التي يوظفها الدواعش". واعتبرت زميلتها رجاء بن سلامة "أن تحفيظ القرآن لمن لا يفهمه هو ما يفعله الإرهابيون". لكن الأمر في ظاهره غير ما تخفيه البواطن الحبلى بتأويلات أيديولوجية وبراغماتية سياسية ورؤية أنطولوجية وديو-أنطولوجية من الإسلام. أركيولوجيا سريعة في خفايا التأويلات والقراءات كفيلةٌ، وحدها، أن تحدّد الهوية الأيديولوجية لأصحاب مناهضة تحفيظ القرآن، في مجتمع عربي مسلم، يعد المسّ فيه بالكتاب المقّدس مبعثاً على الخروج عن الملّة، كما هو راسخ في المخيال العربي والإسلامي. وتتحاشى النخب الحداثوية التونسية أن تضع نفسها في مثل هذا المطب المؤدي إلى الاكتواء بلهيب نيرانٍ، كثيرا ما أشعلوها هم بأنفسهم، على غرار تبرير الباحثة أمال القرامي المثلية الجنسية بما قالته عن وجود مخنث في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولذلك، هم يبرّرون رفضهم ومناهضتهم تحفيظ القرآن بمسوّغات من داخل النص القرآني. لن نناقش هذه المسألة في شكل صراع بين إسلاميين ماضويين رجعيين وعلمانيين حداثيين تقدميين، في ثنائيةٍ عقيمةٍ، أفسدت على التونسيين والعرب أجمعين إمكانيات النهوض والتقدم على أرضيةٍ صلبةٍ مبنيةٍ على سلطة النصّ والعقل، في تعايشهما، وليس في صراعهما. هي مدرسة قديمة، أسس لها الألماني تيودور نولدكه الذي نشر سنة 1860 مؤلفه "تاريخ القرآن" ترجم إلى العربية سنة 2004 في 840 صفحة، على نفقة مؤسسات أوروبية وأميركية، ووزعته ، على نطاق واسع، في معرضي الكتاب في بيروتوتونس، مؤسسة كورناد-ادناور. وقبل ترجمة هذا العمل الفريد من الناحية المنهجية والعلمية والتاريخية، واعتماد اللغات والديانات القديمة في التحليل والبناء النظري، تسرّبت أجزاء مترجمة منه إلى الانكليزية والفرنسية والعربية، ولم تكن تعكس الرؤية الشاملة والنسق النظري والتاريخي لصاحبه، والرسالة التي يبتغي تسويقها. واليوم، وبعد أن أصبح النص متوفراً بفضل الترجمة، بات بالإمكان معرفة المعين الذي شربت منه بعض النخب الحداثية التونسية في فهم القرآن وتأويله. الفكرة الرئيسية لنولدكه هي دراسة القرآن، لكي يصبح نصاً تاريخياً، كما يبرزه عنوان الكتاب، وليس نصاً ميتا-تاريخياً، يتعالى على الفعل البشري. لا يتسع المجال لاستعراض ما جاء به نولدكه، في مؤلفه الذي كتبه، وهو شاب، للحصول شهادة الدكتوراه، ونال به جائزة أكاديمية باريس سنة 1858، لكن الصرامة العلمية لا يمكن أن تخفي عنّا خلفية نولدكه القائمة على أنسنة القرآن، سواء من خلال تصنيفه السور، وردّها جميعا إلى التراث والأساطير اليهو-مسيحية التي كانت منتشرة في مكة والمدينة، زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بما فيها نواحٍ واردة في العبرية والأكادية والآرامية، ما ينزع عنه مصدره السماوي وقدسيته. ولم يتأخر نولدكه في وصف الرسول بنعوت لا تتماشى مع الأركيولوجيا التاريخية لعمله، والتحامل عليه، وعلى زوجاته، وتفسير وقائع معينة قسريا، واعتبار الفاتحة والمعوذتين مجرد أدعية، وترويج زعم أن الوحي مجرّد تخميرة أو صرع يصيب الرسول من حين إلى آخر. أثرت هذه المقاربة في تفسير بعض النخب الحداثية التونسية القرآن الكريم، وقراءة السيرة المحمدية. ومن أبرز هؤلاء كل من العفيف الأخضر وعبد المجيد الشرفي. فقد كتب الأخضر، قبل وفاته سنة 2013، كتابا عنيفاً بعنوان "من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ"، غايته، كما كتب صاحبه، إخراج محمد من الإيمان والمعتقد إلى التاريخ، ليتمكّن من مناقشته، وحتى مقارنة نفسه به، كما ورد في المقدمة، كبشر وليس كرسول يوحى إليه. بنى الأخضر أطروحته على ما انتهى إليه نولدكه أن الوحي الذي ينزل على الرسول هي لحظة مرض نفسي، وذهب يؤصّل هذه الكلام منذ ولادة الرسول الذي اعتبره طفلاً يعيش حالة توحد "أوتيست autiste"، فنشأ منفصم الشخصية بسبب يتمه وفقره، وتعدد المشرفين على تربيته. هذا التحليل المتطرف في دراسة شخصية الرسول، يعتبره العفيف الأخضر ثورة في دراسة الأديان المقارنة، مجتبياً كل ما أنتجته العلوم اللغوية والنفسية والتاريخية والأنثروبولوجية، لدعم قراءته التجربة المحمدية، معتبراً القرآن سيرة محمد الذاتية. لكن القراءة التي تكاد تتحول إلى مدرسة هي التي أنتجها الجامعي المتقاعد المختص في الحضارة العربية، عبد المجيد الشرفي، الذي أهّل عشرات الطلاب في الدراسات العليا في مواضيع تتعلق بالقرآن والسيرة النبوية. تبدو بصمة نولدكه ظاهرة في أفكار الشرفي، وبعض طلبته الذين يتصدّرون المشهد الإعلامي، رفضا لتحفيظ القرآن الكريم. فعندما نقرأ كتاب الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، ولدينا سابق معرفة بنولدكه، تتضح لنا معالم مقاربته من خلال العنوان أولاً، ومن خلال تنزيل الدعوة المحمدية في سياق تاريخي شرقي، يتماهى، في جوانب كثيرة، مع ما جاء في الديانات القديمة المنتشرة في المنطقة التي عاش فيها الرسول، ويخلص إلى أن محمداً "الذي كان منطوياً على نفسه مثل جلّ الأيتام"، هو نتاج كل تلك الثقافات الدينية التي شرب منها وارتوى. صحيح أن الشرفي لا يمتلك الجرأة نفسها التي جاءت على لسان نولدكه، أو الأخضر، لكن منحاه في أنسنة الفعل المحمدي والنص القرآني، وحتى تبنّي أزعومة الوحي "تخميرة ونوع من الصرع" بإخراج لبق مجمّل، يظهر في كتابه في مقاطع لا لبس فيها، على غرار القول "فالوحي إذن هو مصدر علم النبي، أي تلك الحالة الاستثنائية التي يغيب فيها الوعي، وتتعطل الملكات المكتسبة، ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوةٍ، لا يقدر النبي على دفعها، ولا تتحكم فيها إرادته على نحو متميز .."(ص43). وكذلك في أن "لفظ القرآن لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلّغها الرسول إلى جماعته التي عاصرته، أما ما جُمع بعد وفاته في ترتيب مخصوص، ودوّن بين دفتين، فمن المعروف أن الصحابة أنفسهم لم يكونوا متفقين في البداية حول مشروعية هذا الجمع الذي لم يقم به النبي ولم يأمر به.."(ص 49). وهذا الموقف كاف لنزع كل قدسية على رسالة الإسلام والنص القرآني، ووضعهما في خانة الممارسة البشرية، ومن ثمة نقدهما، ما يمكّن من إعادة كتابة القرآن، بما أنه لا يتطابق مع ما جاء به محمد نفسه، على قياس كتابة التوراة والإنجيل التي تمّت بعد مئات السنين من ظهورهما. ولقد أخذت عن الشرفي الانتصار لإخراج القرآن الكريم من المقدس، وإدخاله التاريخ كميثولوجيا، تلميذاته ممن ذكرنا أعلاه في أطروحاتهن التي نوقشت في الجامعة التونسية، مثل أطروحة السليني "تاريخية التفسير القرآني والعلاقات الاجتماعية من خلال نماذج من كتب التفسير". وقد استطاع أنصار هذا الاتجاه تحويل مسائل ذات طبيعة أكاديمية معقّدة إلى معركة سياسية-إعلامية، مدخلها "خطورة" تحفيظ القرآن. ويبدو أن خلطهم بين الإسلام والإسلام السياسي الطارئ على المجتمع يأخذهم إلى مدخل ناجع للنزول بالقرآن من عليائه وقدسيته إلى أنسنةٍ تجعله موضع جدل، فيغيب عنه الإجماع، وينتهي مرجعاً عادياً لا يختلف عن بقية المرجعيات.