1 : الكونية واختراقات السيادة يًعدّ مبدأ السيادة أهم مقوم من مقومات الدولة في الفكر السياسي والقانون الدولي المتعارف بين الأمم. ويقسم الفقه الدستوري السيادة إلى : سيادة الدولة داخليا بتحديد النظام السياسي والسيطرة على الموارد وتصريف أمور الناس،وخارجيا بعدم الخضوع لسلطة خارجية تحد من سلطتها المستقلة، وإلى سيادة داخل الدولة وتعني الأشخاص الذين خصهم الدستور بممارسة السلطة كرئيس الدولة والبرلمان والحكومة. وقد برزت الدولة القطرية العربية إثر الحربين العالميتين في عملية توازن استراتيجي بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الإشتراكي... انتهت الحرب العالمية الأولى إلى تفكيك الدولة العثمانية، وانتهت الثانية إلى إنهاء صوري للإستعمار وتوزع الدول الضعيفة بين الغالبَين تحت طقس حرب باردة ضمنت الحد الأدنى من ممارسة السيادة داخليا والمناورة خارجيا . إثر انهيار الإتحاد السوفييتي رسميا في شهر ديسمبر من سنة 1991 أصيبت دولٌ وحركات كثيرة بما يُشبه "اليتم" والعبارة لقائد عربي كان دعا يومها العرب إلى التوجه نحو الصين... سقط اليمن الجنوبي الإشتراكي وهُوجم العراق وأصبحت الجزائر في العراء السياسي... فسحَ المجال للرأسمالية المنتصرة بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية مدفوعة بنشوة الغلبة كي تحاول بسط سيادتها على العالم من خلال قدرتها على تفعيل مقومات العولمة لصالحها: ÷ المقوم الإقتصادي: منظمة التجارة العالمية،صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ÷ المقوم المعلوماتي والإتصالي: شبكة الأنترنيت، التجارة الإلكترونية،شبكة الإتصالات العالمية.... ÷ المقوم القانوني: القانون الدولي الحديث يشترط على الدولة التكيف مع والتقيد بالإلتزامات الدولية، تقنين حق التدخل الشأن الداخلي للدول بمبررات أمنية وجنائية وحتى قيمية، القوانين التجارية العابرة للحدود، قوانين الإغاثة والتدخل الإنساني.... ÷ المقوم الأمني: تداخل الأمن الوطني والأمن الدولي، مسؤولية الدولة أمام المجتمع الدولي عن الأمن الإقليمي والدولي، ظهور مؤسسات أمنية عالمية ذات مجال حركة عالمي حيث تحول حلف النيتو منذ قمة أعضاء الحلف المنعقدة بواشنطن في أفريل 1999 إلى مؤسسة أمنية عالمية من حقها التدخل في أي مكان من العالم ودون تفويض من الأممالمتحدة على خلاف الفقرة الخامسة من ميثاقها. ÷ المقوم الثقافي: لما كانت الثقافة طرائق عيش وفنون تعبير عن الحياة فإن الحضارة الغالبة هي التي تنصر دائما ثقافتها، المجتمعات الساكنة "الضعيفة" تستورد ضرورات العيش ومفردات الضرورات وتُخترق في جهازها النفسي والذهني وفي ذائقتها وقيمها حين تشعر بالدونية فتقلد الغالبَ... لقد فرضت العولمة ثقافة استهلاكية عن طريق الإشهار كما فرضت نمط تعامل تجاري بين الناس وأنماطا سلوكية تتطلبها المنظومة التجارية ... لقد اقتحمت ثقافة الغالبين على المغلوبين حدود أوطانهم وأبدانهم... "العولمة" بما هي نزوعُ هيمنة لدى الغالبين بعد انهيار المعسكر الإشتراكي تريدُ التسلل الناعم عبر فلسفة "الكونية" بما هي تصور إنساني لوحدة النوع البشري ولوحدة نظام الكون ووحدة القيم والحقوق الإنسانية ... يُحاولُ الغالبون إحداث امتزاج بين الفلسفة وماكينة الإنتاج الرأسمالي.. يحاولون التسلل إلى الأوطان عبر مُفرداتٍ حقوقية ومعايير سياسية ... يمتزج لديهم الجشعُ و"الشفقة"؟ 2: الداخل والخارج هذه التحولات الكبرى في المشهد الدولي وهذا التدافع السريع للتشكلات الطارئة جعلت مفهوم السيادة الوطنية رخوا في باطنه وظاهره... ولم تعد الأنظمة السياسية تُحْكم السيطرة على المفهوم كما كانت سابقا بحيث تستندُ إليه ك"مقدس" لمحاسبة المتعاملين مع الخارج والمتواطئين مع الأجنبي أو حتى اتهامهم بالتآمر على الوطن... هذه الأنظمة نفسها لا تكف اليوم عن المجاهرة بالإنخراط في المشهد الدولي الجديد بدءا من التجارة العالمية مرورا بالإلتزامات الحقوقية والتنموية وانتهاء إلى الإشتراك في الحرب على "الإرهاب"... ولا يخفى ما تتعرض إليه هذه الأنظمة من ضغط خارجي باتجاهات عدة تغري البعض من أهل الداخل بالإستقواء بأولائك الضاغطين من أجل تحصيل بعض حقوق ومقتضيات مواطنة، بل وقد يغترّ البعض فيُوغلُ في أوهام وتخيّلات يرسمها له الغامزون من خارج. القيم "الكونية" ليست مجرد فلسفة بريئة إنها ذات أنياب لا تكف عن النهش في كامل الجسد العربي ... و"الحقوق" ليست دائما إنسانية بل غالبا ما تكون مداخل للتشريح السياسي وفق مواصفات يضبطها أولائك الذين استفاقوا فجأة على أن الآدميين جميعًا سواسية في أصل التراب... تحاول الأنظمة التأكيد على أنها حقوقية وديمقراطية وإنسانية وكونية، وهي أيضا تحرص على ألا يتداخل خطابُ الداخل مع إملاءات الخارج المهينة... السياسة ليست نشاطا خيريا ولا حميمية صداقة، لذلك لا يقيلُ أحدٌٌ من السياسيين عند ظل أحدٍ، وحدهم المقامرون يستبدلون ويبيعون ما لا يُباعُ ... وحدهم الحمقى يكتشفون في النهاية أنهم مغدورون. لا يخفى على عاقل ما ينتج عن حرف الاختلافات الداخلية إلى نزاع حول "الخارج"، حين ينصرف الاهتمام عن المسائل العملية داخليا إلى موضوع السيادة وحرية القرار... لقد جرت العادة أن شركاء المكان يؤجلون دائما خلافاتهم ويتجندون ضد أي تهديد خارجي... هذا التأجيل مُربك لمسارات الحوار ولمقتضيات التدافع السياسي والفكري بين السلطة ومعارضيها من الأحزاب والنخبة، حين يسود الحياة السياسية حالة من التصارخ والتتاهم والتحشيد على الضفتين تضيق مساحات العقل وتضعف فرص التصاغي والتعبير الهادئ. أيّ حكمة سياسية أو فكرية من تبديد زمنٍ وطاقاتٍ في غير مواضيع حقيقية؟ وفي غير مسائل مبدئية ؟ وأيّ إنجاز وطني يحققهُ من يُفلح في استنهاض قبضاتٍ خارجيةٍ تُطرّق أبواب الوطن ؟. وحتى لا يُقال بأن خلايا النحل لم تذهب بعيدا إلا حين لم تجد الرحيق بمقربة منها فإن أنظمتنا مدعوة إلى الذهاب إلى الداخل لتحصين السيادة الوطنية فعلا وسدّ ذرائع استصراخ "الخارج"، ولا يشك عاقل في كون نقد الداخل وإن اشتد هو أقل وطأة من إملاءات الخارج وتدخلاته المهينة للجميع. وفي هذا الطقس السياسي والدولي المائج يُعوّلُ على أصحاب "الرؤية" في تهدئة الخطاب وإثراء القاموس الثقافي والسياسي بمفردات التوافق والاصطبار والتصاغي والتواضع للوطن وللإرادة الجامعة، يُعوّل على مُبدعي السياسة وعلى قادحي الأفكار الوامضة كي يجتهدوا في كبح الخطابات النافرة والمفردات العضوضة والأصوات القارعة والأنفس المشحونة، يُعول على الإعلام كي يتسع للإختلاف والتنوع وكي يترفع عن كل ما لا ينسجم مع طبيعة دوره في التنوير والتعريف والإثراء .